محمد أمين

رئيس التحرير

لا يمكن فهم نتيجة استفتاء ٢٠١٦م والذي انتهت نتائجه باختيار الخروج من الاتحاد الأوروبي إلا في سياق كونها إحدى إرهاصات صعود اليمين المعادي للمهاجرين،والذي نجح خطابه المتطرف في التسلل للناخب البريطاني،بعد حملة ممنهجة في الإعلام لشيطنة المهاجرين، وتحميلهم مسؤولية تراجع الرفاة، وتردي الخدمات التعليمية والطبية، وانخفاض مستوى الدخل.

وإذ نجح هذا الخطاب في اقناع الناخب البريطاني بالتصويت بنعم للطلاق من النادي الأوروبي، فإنه أذكى كذلك منسوب الكراهية للآخر، كان أوروبيا أم مشرقيا أو خلاف ذلك،

و تأتي نتائج الانتخابات الأوروبية لتؤكد أن هذا الخطاب لم يقتصر تأثيره على بريطانيا بل تسلل لكل الساحات الأوروبية الأخرى، فتصدر حزب "بريكست" بقيادة اليميني نايجل فراج في بريطانيا،و تقدم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في فرنسا بقيادة مارين لوبان كلها علامات على أن أوروبا تدخل حقبة جديدة عنوانها التطرف اليميني والانكفاء على الداخل،ولا تقتصر مخاطر هذه الظاهرة على المهاجرين الجدد فقط، بل تتعداها للمواطنين من أصول غير أوروبية كالعرب.

هذه الظاهرة التي تجتاح أوروبا تأثرت بطبيعة الحال بالظاهرة " الترامبية" الشعبوية في أمريكا التي رفعت شعار "أمريكا أولا"،إلا أنها ورغم هذا الصعود تبقى في تقديري ظاهرة عابرة ستنتهي بانتهاء مسبباتها وهي الأزمة المالية التي تمر بها أوروبا،وانعدام الثقة في الأحزاب التقليدية، لكن ومع إيماننا بأنها سحابة وستمر فإن علينا أن نجهز أنفسنا للتعامل مع سنوات عجاف تحتاج للحكمة والتخطيط والبدء من الآن في الانخراط في الشأن العام وعدم ترك الساحة السياسية والمجتمعية لقواعد وأنصار تلك التيارات اليمينية.

وفي قراءة ظاهرة صعود اليمين، ينبغي أن ننطلق من فهم واضح لها، إذ تعبر تلك الحركات اليمينية عن حالة احتجاج شعبي ضد الأحزاب التقليدية القائمة،كذلك تعبر تلك الظاهرة عن اخفاق نظام الحزبين وبرامجهما الانتخابية في تحقيق الوعود الانتخابية، من الرفاة الاقتصادي ،والتشغيل، وجودة الخدمات وغيرها، فاستغلت تلك الأحزاب اليمينية هذه الظروف للولوج لخطاب يذكي النزعة القومية لدى الناخب، زاعمة أنها الحل، وأنها تريد تغيير قواعد اللعبة السياسية لصالح اعلاء المصالح الوطنية .

ولادة أحزاب جديدة برأينا خارج سياق نظام الحزبيين القائم، والذي فشل أوأخفق في تحقيق وعوده الانتخابية، يعد ظاهرة طبيعة في شكلها العام، وتعكس احباطا لدى الناخب من الفشل في إيجاد حلول للمشاكل الحياتية التي نجمت عن الأزمات الاقتصادية التي مرت بها أوروبا، إلا أن النزعة القومية والدعوات للتموضع داخليا ، والمناداة بإغلاق الحدود التي رافقت ولادة تلك الأحزاب تجعل من المستحيل أن تكون هي بديلا وطنيا حقيقيا للأحزاب القائمة، فاختزال الإشكالات في قضية واحدة وهي " الهجرة"، يجعل برنامج تلك الأحزاب يختزل في بند واحد وهو الكراهية للآخر،الأمر الذي من المستحيل أن يجعلها حلا وطنيا بديلا للأحزاب القائمة، بل خطرعلى دولها قبل كونها خطر على المهاجرين.

إلا أن تلك الأحزاب الشعبوية في أوروبا  لم تعد مجرد ظاهرة ينتظر أن تتراجع وتعود مياه السياسة الأوروبية إلى مجاريها التقليدية، فهي تتحول شيئا فشيئا إلى قوة صلبة تستمد نقاط ارتكازها من الرؤى المتباينة لأزمات الاقتصاد والهجرة ،والاختلاف في التعاطي مع مفهوم القومية بمفهومها الأوروبي الشامل والقومية في معناها الأضيق المرتبط بجغرافية الدولة وتاريخها وخصوصياتها.

وعليه ينبغي لعرب أوروبا التفكير مليا في مقاربة لمواجهة هذه "اللعنة الجديدة" إن صح التعبير التي تجتاح أوروبا، وبتقديري فإن أولى المقاربات المطلوبة لمواجهة ذلك هو الاندماج أكثر في المجتمعات الأوروبية وتجنب الانعزال، و الإصرار على الخطاب المعتدل، والانفتاح على المجتمع والقوى السياسية والمجتمعية فيه،لأن الاحتكاك المباشر هو الكفيل في دحض رواية اليمين المتطرف، وتبيان زيفها، كما أن المطلوب من عرب أوروبا التحدث من منطلق المواطنة الكاملة، فهم مواطنون أوروبيون يتمتعون بكامل حقوق المواطنة،وليسوا أقليات طارئة على المجتمع، خاصة وأن بعض جالياتهم  تعيش الان الجيل الثالث وربما الرابع، ما يعني أن آباءهم ولدوا في أوروبا وأن كثيرا منهم لا يعرف غير تلك البلدان الأوروبية وطنا له.

ومن جهة أخرى وفيما يتعلق بالشق السياسي، وبالقضية الفلسطينية التي تعد القضية الجامعة لعرب أوروبا والعرب جميعا، فإن اللوبي الصهيوني التقط فرصة صعود اليمين لتشويه صورة العرب، مستغلا تلك اللحظة من حالة الهيجان في الإعلام والانزعاج من المهاجرين، لاستثمارها في تشويه صورة العربي، ووسمه بالإرهاب، وتحميله مسؤولية التطرف الذي يجتاح العالم ويهدد أمن المجتمعات الأوروبية.

والناظر للتحالف أو التنسيق على الأقل بين التيارات اليمينية والمؤسسات الصهيونية العاملة في أوروبا يلحظ دونما شك وجود تحالف وخطاب مشترك، ويتأكد لديه أن تلك ليست مصادفة، وإنما جراء عمل منسق، تستهدف منه الصهيونية  تشويه صورة العرب المقيمين في أوروبا والذين باتوا يشكون كيانات مستقلة وناهضة، وأصواتا انتخابية تؤثر في صناعة القرار في بلدانها الأوروبية.

وتبدو في بريطانيا الظاهرة " الكوربنية" وصعود نجم زعيم حزب العمال جيرمي كوربن المناصر للقضية الفلسطينية مثالا على ذلك،إذ تعرض الرجل اليساري لهجمة شرسة من الإعلام اليميني المتصهين،للانتقام من مواقفه المناصرة للقضية الفلسطينية،وعمل إعلام اليمين جنبا إلى جنب مع اللوبي الصهيوني على وسمه بالإرهاب، والربط بينه وبين بعض الجماعات الإرهابية، فلم تكن بطبيعة الحال قضية ذلك اليمين مواقف كوربن المتعلقة بقضايا الهجرة والمسائل الاقتصادية الأخرى التي يزعمون أنهم يناضلون من أجلها، بل كانت تصفية حسابات مع الرجل لمواقفه من القضايا العربية، إذ شنوا هجوما لاذعا عليه انطلاقا من تلك الرغبة في التصفية السياسية لأي صوت مناصر للقضايا العربية.

أخيرا لا ينبغي الخوف، لأن الخوف لم يصنع يوما حلا ولن يصنع، بل كان دوما عاملا لتكريس الإشكال، فرغم حوادث العنصرية هنا وهناك، والتي تتحول لجرائم بشعة، إلا أن الضمير الأوروبي العام مازال يؤمن بالتعايش، واستيعاب الآخر، وإعلاء قيم حقوق الإنسان، كما أن قطاعا كبيرا من الأوروبيين مازال رغم تحالف بلدانهم مع الاحتلال الصهيوني يدعمون حقوق الشعب الفلسطيني،وأحدث شاهد على ذلك تلك التظاهرة الكبرى في بريطانيا في ذكرى النكبة مطلع مايو الماضي،إذ احتشد في قلب لندن عشرات الآلاف من البريطانيين للتنديد بالاحتلال الإسرائيلي،وانتقاد سياسة بلادهم الداعمة له،مطالبين رئيسة وزرائهم بالتوقف عن ذلك والعمل بدلا منه على دعم حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.

بهذا الأمل، واليقين، والعمل ينبغي أن نستمر في النضال أوروبيا.

السابق عرب بريطانيا.. الرقم الصعب
التالي عودة أميركا بوش