وسيم المبارك- كاتب وباحث

لقد فُتحت أستار جديدة أمام المشهد التعليمي برُمَّته، فانسلخ من نظامه التقليدي وغيَّر مجراه، واتَّخذ منعطفًا جديدًا، عندما انفتح على عالم الذكاء الاصطناعي الذي يسابق الخطى نحو التقدم. فقد تجاوز فكرة كونه مجرد خيال مستقبلي، ليصبح وجهة وصرحًا شامخًا متعدد اللبنات، فشمل الفصول الدراسية ومنصات التعلم، بل واتجه نحو تخصيص التعلم، وتعزيز التدريس، وإعادة تشكيل طبيعة التعليم ذاتها، فلم يترك طريقًا إلا شقه ولا مجالًا إلا سبر أغواره. وهذا المقال يستعرض مدى تأثير الذكاء الاصطناعي على التعليم من عدة جوانب، مستندًا إلى نظريات التعلم المعاصرة، كما لم يغفل التحديات المحتملة، فيُقرُّ بها ويتناولها بهدف معالجتها لضمان تحسين مستمر ومثمر.

الجوانب التعليمية التي يثريها الذكاء الاصطناعي:

التعلم الشخصي

هو نهج بنائي معزَّز بالذكاء الاصطناعي ونظرية تعليمية رائدة؛ حيث يستقي المتعلم معلوماته، ويبني معارفه معتمدًا على الخبرة والتأمل. وقد كان للذكاء الاصطناعي الدور الأكبر في إرساء هذا النهج وتعزيزه، من خلال تمكين مسارات تعلم شخصية تلبي احتياجات الطلاب الفردية. وفي هذا الصدد، يمكن للمنصات المدعومة بالذكاء الاصطناعي تحليل بيانات الطلاب، مثل أنماط التعلم ونقاط القوة والضعف، وذلك بهدف تنظيم المحتوى المقدم، وترتيب أولوياته، وتوفير تدخلات تعليمية موجهة، وهو ما يتناغم مع نظرية فيجوتسكي للتطور القريب، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون هو "الآخر الأكثر دراية"، فيدعم التعلم ويدفع الطلاب نحو مستويات أعلى من الفهم. وتعد منصات التعلم التكيُّفي وأنظمة التدريس الذكية وأدوات إنشاء المحتوى التي يقودها الذكاء الاصطناعي أمثلة حيّة على هذا النهج الشخصي في التعلم.

تعزيز التدريس

يقصد به التغيير في صميم العملية التعليمية؛ فيتحول المعلم من ممسك بعصا التحكم إلى مرشد وموجه.

لا يهدف الذكاء الاصطناعي إلى استبدال المعلمين، بل إلى تعزيز قدراتهم. فمن خلال أتمتة المهام الإدارية مثل التصحيح والتقييم، يوفر الذكاء الاصطناعي للمعلمين فسحة من الوقت للتركيز على ما يتقنونه، وما يجب عليهم الاضطلاع به مثل بناء علاقات مع الطلاب، وتقديم الملاحظات الشخصية، وتعزيز التفكير النقدي. وتسهم التحليلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في تقديم رؤى فورية للمعلمين عن أداء طلابهم، فيتمكنون من تحديد فجوات التعلم، ويُقوِّمون أساليب التدريس ويعدِّلونها بما يتناسب مع احتياجات الطلاب. يتسق هذا التوجه مع التحول نحو التعليم الذي يركز على الطالب، ففيه يصبح دور المعلم ميسِّرًا ومرشدًا بدلاً من مجرد ناقل للمعلومات وملقِّن. فضلًا عن ذلك، بلغ الذكاء الاصطناعي من التقدم ما يؤهله لمساعدة المعلمين في تصميم تجارب تعليمية أكثر جاذبية وتفاعلية، والاستفادة من المحاكاة، والواقع الافتراضي، وتقنيات اللعب.

توسيع الوصول والمساواة

ويعني سد الفجوة الرقمية، وهو ما أصبح ممكنًا بفضل التطور السريع للذكاء الاصطناعي. ومع الوتيرة المتسارعة لهذا التقدم، أصبح إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى موارد التعلم عالية الجودة أحد أكثر الجوانب الواعدة للذكاء الاصطناعي في التعليم.

توفر المنصات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي فرصًا تعليمية مخصَّصة للطلاب، بغض النظر عن موقعهم الجغرافي، أو خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية، أو اختلاف أساليب تعلمهم. ويمكن أن يكون لهذا التوجه بالغ الأثر؛ خصوصًا لدى الطلاب في المجتمعات المحرومة أو ذوي الاحتياجات الخاصة. مع ذلك، من الضروري الاعتراف بأنه لا تزال هناك فجوة رقمية، متمثلة في الوصول غير المتكافئ للتكنولوجيا والإنترنت، تشكل حجر عثرة أمام ما نرنو إليه. وإذا كنا ننشد حقًا تعزيز المساواة في التعليم المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فلا بد من تضافر الجهود لسد هذه الفجوة، وإتاحة الفرصة نفسها لجميع الطلاب للاستفادة الكاملة من هذه التحولات التقنية.

 التحديات والاعتبارات الأخلاقية:

دعوة إلى الابتكار المسؤول

كما لدمج الذكاء الاصطناعي في التعليم الكثير من المميزات، فإن له عددًا من التحديات تستدعي الاهتمام والأخذ بعين الاعتبار ومعالجتها بعناية. من أبرز هذه التحديات، التحيز الخوارزمي، وهو عندما تعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي على تعزيز التفاوتات المجتمعية القائمة، مما ينتج عنه تفاقم الفجوات التعليمية. فإذا غُذِّيت خوارزميات الذكاء الاصطناعي ببيانات متحيِّزة، فقد تُسهِم هذه الأنظمة في تمييز بعض الفئات الطلابية على بعض، وهو ما يعمِّق هذه التفاوتات. أما فيما يتعلق بخصوصية البيانات، فقد تمثل قضية أخلاقية تستوجب الحذر، إذ يثير جمع بيانات الطلاب وتحليلها أسئلة عن كيفية استخدام هذه المعلومات وحمايتها.

علاوة على ذلك، فإن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في التعليم، قد يؤدي إلى تقليص العنصر البشري في العملية التعليمية، وهو ما ينذر بالخطر. فالجوانب الاجتماعية والعاطفية للتعلم، والتفاعل بين الطلاب والمعلمين، ركن ركين في التنمية الشاملة للطلاب، لا يمكن غض الطرف عن أهميته وضرورته، ولا يمكن الاستغناء عنه حتى في سبيل تحقيق كفاءة تكنولوجية غير مسبوقة.

الخلاصة: الشراكة بين العنصر البشري والذكاء الاصطناعي ضرورة حتمية

لقد بات لدى الذكاء الاصطناعي القدرة على إحداث ثورة هائلة وتحول جذري في مسار التعليم، وخلق تجربة تعليمية أكثر تخصيصًا وجاذبية ومساواة بين جميع الطلاب. ومن خلال تسخير هذه القوة التكنولوجية، يمكننا رسم مستقبل تعليمي واعد يمكّن المتعلمين من الوصول إلى أقصى إمكاناتهم. وذلك من خلال تبني المبادئ البنائية، وتعزيز دور المعلمين، ومعالجة القضايا الأخلاقية. ومع ذلك، من الأهمية بمكان ألا يغيب عن أذهاننا أن الذكاء الاصطناعي لا يعدو كونه أداة، وأن نجاحه وفعاليته يعتمدان على كيفية تصميمه وتنفيذه واستخدامه؛ لذا فإن النهج التعاوني، الذي يجمع بين المعلمين وصناع السياسات وخبراء التكنولوجيا والطلاب، هو السبيل لضمان أن يخدم الذكاء الاصطناعي المصالح العليا للتعليم وتمكين الجيل القادم من المتعلمين.

 

 

التالي تشديد قوانين الجنسية في بريطانيا: خطوة نحو الإصلاح أم دعاية سياسية؟