خولة الحموري - عرب لندن

دور ونستون تشرشل في نكبة فلسطين: تحليل تاريخي

يشاد بونستون تشرشل، الشخصية البارزة في تاريخ بريطانيا كزعيم قاد بلاده خلال الحرب العالمية الثانية. غير أن دوره في تشكيل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، لا سيما فلسطين، يجعل من شخصه أقل جدارة بالاحترام. فقد لعب تشرشل دورا محوريا في إلغاء الوجود الفلسطيني، وكان ذلك حجر الأساس للعدوان القائم الذي لا يزال يلقي بظلاله على المنطقة حتى هذا اليوم.

وبالنظر إلى غزة، فإنها تجسد على وجه الخصوص، التبعات المأساوية لسياسات التهجير والإقصاء والفصل العنصري واستمرار استهداف المدنيين العزل في ديارهم وقتل الأطفال والنساء بلا رحمة.

رؤية تشرشل لفلسطين: عقلية استعمارية استبدادية

كانت الإمبريالية البريطانية في القرن التاسع عشر قد مهدت الطريق لفكرة أن الغرب لديه الحق في السيطرة على الشرق، وأن الشعوب في تلك المناطق لا يمكن أن تحكم نفسها أو تُعطى حق تقرير المصير. في هذا السياق، كان تشرشل من المدافعين الأقوياء عن بقاء الإمبراطورية البريطانية.

وكان النهج الذي اتبعه تشرشل تجاه فلسطين يجسد العقلية الاستعمارية، وهي سمة للسياسة الإمبريالية البريطانية حينها. وتجلى هذا النهج بصورته الوحشية الدنيئة من خلال تصريحه الشهير أمام لجنة بيل عام 1937، والمعروفة باسم "اللجنة الملكية لفلسطين" وهي لجنة تحقيق ملكية بريطانية تم تشكيلها عقب اندلاع الثورة العربية في فلسطين 1936-1939، حيث قال:

“لا أتفق مع أن الكلب في المذود - المعلف-  له الحق الأخير في المذود، حتى وإن كان قد استلقى هناك لفترة طويلة جدًا. لا أُقرُّ بهذا الحق.”

جاءت صورة الاستعارة هذه لتشير إلى فكرة أن اليهود لهم الحق في العودة إلى فلسطين بعد فترة طويلة من غيابهم، حتى إذا كان الفلسطينيون قد عاشوا هناك لعدة قرون.

وتبين كلمته موقفه المؤيد لليهود تجاه فلسطين، حيث كان يعتقد أن الفلسطينيين ليس لهم الحق النهائي في تقرير مصيرهم، مقارنةً باليهود الذين اعتبرهم أصحاب حق تاريخي في العودة إلى وطنهم في فلسطين. وتظهر المقولة نوعًا من التحقير لشعب فلسطين، حيث يقارن وجودهم بالكلب في المذود الذي يستلقي في مكان طويل دون حق قانوني أو مشروع.

وكان خطابه هذا مُقللاً من شأن مطالب العرب بالأرض، مؤطرًا إياهم على أنهم عقبة أمام التقدم بدلاً من كونهم شعبًا لديه مظالم شرعية.

 وقد أدلى تشرشل بتصريحات أخرى كذلك تُظهر مدى تحامله العنصري ضد العرب. ففي أحد تصريحاته قال: "أنا لا أؤيد فكرة أن خطأً قد حدث للعرب في فلسطين، لأن يهوديًا أكثر تطورًا ووعيًا قد حلّ محلّ عربي متأخر."

ولم تأت هذه الكلمات كانعكاس لآراء تشرشل الشخصية فحسب، بل كانت تبريرا لسياسيات كان لُبها إعطاء  تبرير وشرعنة أهداف الحركة الصهيونية على حساب حقوق الفلسطينيين. وبهذه العقلية مهد تشرشل الطريق لتهميش الفلسطينيين بشكل ممنهج، ومستمر حتى اليوم.

إعلان بلفور وتنفيذ تشرشل له

مما لا شك فيه هو أن وعد بلفور الذي صدر عام 1917 عن وزير الخارجية آنذاك، آرثر بلفور، كان نقطة تحول تاريخية لفلسطين.

وكان أساس الإعلان هو إنشاء "وطن قومي لليهود" في فلسطين، مع الإشارة إلى عدم الإضرار بحقوق المجتمعات غير اليهودية الموجودة هناك.

وإن كان بلفور هو من صاغ هذا الإعلان، فإن تشرشل بصفته وزير المستعمرات في أوائل العشرينيات، كان له دور مركزي في تحويل الوعد لسياسة عملية ممنهجة.

وقام تشرشل عبر منصبه آنذاك بصياغة الورقة البيضاء لعام 1922، والتي جاءت لتؤكد موقف بريطانيا من إعلان بلفور،وقُدمت الورقة كإيضاح وتأكيد بأن الوطن القومي الموعود يمتد ليشمل كامل فلسطين، مع حرمان السكان الأصليين من حقوقهم. وقد شجع تشرشل على الهجرة اليهودية،  ودعم استحواذ المنظمات الصهيونية على الأراضي، وتجاهل الاحتجاجات العربية على هذه السياسات.

 وحول إقامة وطن قومي لليهود قال إدوارد سعيد: "كان تشرشل من أكثر المؤيدين لفكرة إقامة دولة لليهود في فلسطين، وهو أمر يتناقض مع الحقوق السياسية والإنسانية للفلسطينيين. كان يعتقد أن اليهود أكثر تطورًا من العرب وأن فلسطين هي أرضهم التاريخية التي يجب أن تكون لهم، رغم أن العرب الفلسطينيين كانوا يقيمون فيها منذ قرون."

وتجلى دعم تشرشل للأهداف الصهيونية كأساس ثابت في خطاباته ومراسلاته، حيث جادل بأن الهجرة اليهودية ساهمت في جلب الفوائد الاقتصادية لفلسطين، مع اعتباره بأن المخاوف العربية غير واقعية ومبالغ في أمرها. بذلك، أعطت سياساته الأولوية لإنشاء الوطن القومي اليهودي على حساب حقوق السكان الأصليين، مما أدى إلى تعميق الانقسامات والاحتقان.

تشرشل مقابل بلفور: مقارنة الإرثين

رغم أن بلفور كان رأس الحربة في تأسيس المشروع الصهيوني، كان دور تشرشل أكثر تأثيرا بل وأكثر ضررا، على الرغم من تناقضاته فيما يتعلق برأيه باليهود. وبهذا الصدد، أشار الدكتور عبد الوهاب المسيري في محاضرة ألقاها في منتدى الفكر العربي في عمّان، إلى مقولة ونستون تشرشل: "أخرجنا السرطان اليهودي من حلوقنا، ورمينا به في حلوق العرب".

كما كان تشرشل يتبنى مواقف أقل تحمسًا تجاه اليهود على مستوى الأفراد. على سبيل المثال، في بعض محاضراته الصحفية، استخدم تعبيرات تشير إلى أن اليهود كان لديهم "ميول تجارية" أو كان لديهم أسلوب حياة مختلف.

ولكن على الرغم من هذا، بينما كان إعلان بلفور مجرد بيان للنوايا وأقرب لأن يكون حبرا على ورق، كان تشرشل منفذ السياسات التي حولت الكلمات إلى واقع ملموس.

وقد حقّر تشرشل من حقوق الفلسطينيين، ووصفهم بعبارات مهينة مع تحويل مسار السياسة البريطانية باتجاه إضفاء الشرعية عليها، مما عمّق من آلية إلغاء وجود الفلسطينيين. 

وربما كان إعلان بلفور مجرد مناورة دبلوماسية على أقل تقدير، لكن تشرشل كرّس نفسه لتحقيق الأهداف الصهيونية، مما ضمن تفوقها على حقوق الفلسطينيين.

وبهذا، يعتبر إرث تشرشل في فلسطين أكثر تدميرا مقارنة بإرث بلفور الذي وضع الأسس، وبنى الأول الهيكل العملي الذي رسخ نظام التصفية والإبادة، وأدى لعقود طويلة من المعاناة.

ثورة العرب: القمع والتصعيد

شكلت ثورة العرب الكبرى (1936-1939) لحظة حاسمة كرد مباشر على السياسات البريطانية في فلسطين، وكشفت عن عمق الاستياء العربي من الحكم البريطاني والاستحواذ على الأراضي وتحييد حقوق السكان الأصليين.

أما رد تشرشل على الثورة كان انعكاسا لتحيزاته بوضوح، حيث اختار قمع الانتفاضة مع تجاهل النظر إلى أسبابها الجذرية. ونشرت الحكومة البريطانية عشرات الآلاف من الجنود في فلسطين، واستخدمت إجراءات قمعية قاسية تضمنت الاعتقالات الجماعية، والعقوبات الجماعية، وتدمير القرى.

وكشفت شهادته أمام لجنة بيل خلال هذه الفترة عن تجاهله لمعاناة العرب. إذ برر القمع البريطاني، معتبرًا المعارضة العربية غير عقلانية، ومؤكّدًا على ضرورة استمرار السياسات التي عمّقت الانقسامات في فلسطين.

 غزة: إرث التهجير وإلغاء الوجود الفلسطيني

كان لسياسات وخطابات تشرشل تأثيرات عميقة ودائمة فلسطين. فبعد النكبة في عام 1948، التي أدت إلى إنشاء دولة الاحتلال، تحولت غزة إلى ملاذ لمئات الآلاف من الفلسطينيين المهجرين. واليوم، تُعد غزة واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان في العالم، ويشكّل اللاجئون وأحفادهم جزءًا كبيرًا من سكانها، وهدفا رئيسا لكيان الاحتلال، كما نرى.

وتعود جذور الأزمة الإنسانية في غزة، التي تتسم بالحصار المستمر، والهجمات العسكرية، والحرمان الاقتصادي، إلى المظالم التاريخية التي وقعت خلال فترة الانتداب البريطاني. وكانت سياسات تشرشل، التي فضلت الأهداف الصهيونية على أي حقوق أخرى، جزءًا أساسيًا من هذه المظالم.

وبالطبع، فإن إرثه في فلسطين عموما وغزة مثال على ذلك يشهد على العواقب الدائمة للسياسات الاستعمارية التي أهملت حقوق أصحاب الأرض الفلسطينيين.

تشرشل والفشل الأخلاقي البريطاني

تعد أفعال تشرشل بمثابة مرآة تعكس الفشل الأخلاقي خلال فترة الانتداب، حيث كانت الأولوية هي المصالح الإمبريالية والطموحات الصهيونية فوق أي مسألة أخرى وعلى حساب الأخلاق والحقوق والعدالة.

 وتجسد خطاب تشرشل وسياساته هذا الفشل، مما أظهر كيف تجاهل القادة البريطانيون المظالم العربية ومهّدوا الطريق لعقود من الصراع والمعاناة، حتى هذا اليوم الذي تشهد فيه غزة ما لم تشهده من قبل من إبادة جماعية وحشية. 

وتأتي معاناة غزة الحالية كنتيجة مباشرة للإخفاقات التاريخية، التي تعود جذورها لجريمة التهجير وإلغاء الوجود الفلسطيني.

الخاتمة

إرث ونستون تشرشل الذي تركه في الشرق الأوسط، يبقى تذكيرا صارخا بالآثار بعيدة المدى للسياسات الاستعمارية. ومع نقض الوعود بالعدالة والمساواة للسكان الأصليين، استمر تشرشل قولا وفعلا في تفضيل المصالح اليهودية على أي مسألة قد تخطر على البال.

وبالنتيجة ما انتهى إليه الوضع في فلسطين عموما وغزة، كانت سياسات تشرشل جزءًا من مسار تاريخي أدى إلى قيام إسرائيل وإلغاء الوجود الفلسطيني مبكرا والانحياز وتبني المشروع الصهيوني الذي ألقى بظلاله على العدوان المستمر حتى اليوم.

إن فهم دوره ضروري لفهم جذور الأزمة في غزة وعموم فلسطين، ولمساءلة الشخصيات التاريخية عن أفعالها. إرث تشرشل، بخصوص فلسطين بالغ السوء، الرجل الذي يراه البريطانيون سيرة لملاحم بطولية، هو في نظر العرب والفلسطينيين مسؤولا عن نكبتهم، وسياسي عنصري إمبريالي، سلبهم أرضهم، هو مثال  للغرور الاستعماري واللامبالاة بالحقوق الإنسانية.

السابق الهجرة والجنسية في المملكة المتحدة لعامي 2025/2026: الأسباب والآثار
التالي وضع الفلسطينيين من حملة الجوازات الأردنية المؤقتة في طلبات اللجوء الدولية: التحديات والفرص