عرب لندن- جاد محمد
ينتهي عرض الفيلم، تسود للحظات حالة من الصمت يتخللها همس، ثم تصفيق ينتقل مثل العدوى بين المشاهدين، هذه لقطة من قاعة سينما في العاصمة البريطانية لندن، خلال العرض الأول لفيلم "جوكر"، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وبات حديث القاصي والداني، واستنفر الأجهزة الأمنية في أكثر من بلاد أوروبي، وحقق مداخيل قياسية ستدخل التاريخ ضمن أكثر الأفلام تحقيقات للأرباح، وبات هذا العمل السينمائي مرشحا فوق العادة بالفوز بكل الجوائز السنمائية التي سيترشح لها، وفي مقدمتها جائزة الأوسكار، فما قصة هذا الفيلم "الحدث"؟ مجلة "عرب لندن"حضرت عرض الفيلم وحاولت تفكيك بعض مضامينه، وكيف نجح بطل الفيلم جواكين فينيكس في تجسيد واحدة من أعقد الشخصيات السينمائية بكل تناقضاتها النفسية وتقلبتها العصبية، التي ستجعل المشاهد في معركة لضبط أعصابه أمام التحول المهول من طفل برئ إلى "جوكر" هذا المارد المزعج.
"لا تقتلوا البراءة بداخلي"
هي رحلة النفس البشرية، بكل ما تحمله من تباينات، وهواجس، وأفكار جوانية قد تعبر عن نفسها أحيانا بأبشع الطرق إن تعرضت للاستفزاز والتنمر، وذلك ما حدث مع مع بطل الفيلم "جوكر" أو "آرثر فيلك" ذلك الشاب الذي يحاول جاهدا النجاح في كمهرج ومقتنع بأنه قادر على إضحاك الناس، رغم فقر موهبته، وطبيعة شخصيته القريبة إلى الطفل منها إلى شاب في عقده الثالث، يبدع البطل في تمثل الرجل الساكن في قوقعة طفل من خلال نبرة صوته الطفولية وخجله خلال الحديث مع الآخرين، وتصديقه لكل ما يقال له، والأكثر من هذا تلك الضحكة الهستيرية التي تنتابه خلال انفعاله، ولا تعكس أي شعور بالسعادة بقدر ما تخفي معاناة إنسان مسحوق، تعصره آلة متوحشة، تتداخل فيها انهيار القيم، واحتكار الثروة، وتغول السلطات، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء.
ويحاكي الفيلم فترة نهاية السبيعينات وبداية الثمانينيات في مدينة نيويورك الأمريكية، واختيار المكان ليس عبثا، بل لكون المدينة تمثل رمزا للنظام الرأسمالي المتوحش، ومعقل أثرياء العالم، ومع ذلك فكل ما يحدث فيه هو إسقاط على واقع الناس في العصر الحالي، لا شيء تغير، بل ربما أصبحت الأمور أكثر سوء، ومعها يتحول الأشخاص من ذوي النفسيات الهشة والتي تعاني من اضطرابات، إلى قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، متى تعرضت للتنمر والتجاهل.
إن تلك الضحكة التي تتحول إلى قهقهة عالية الصوت، يحاول صاحبها كتمانها، تحمل في طياتها صيحة معاناة ونداء استغاثة، لكنها تقابل، بعنف مفرط، والاعتداء الجسدي، والخديعة والتآمر والسخرية، وتدريجيا يقتنع "المهرج الطفل" بأن هذا العالم هو "غابة تسكنها حيوانات" كما يخبره أحد رفاقه في العمل، في البداية يرفض جوكر تصديق هذه الفكرة ويصر أن يحافظ على ابتسامته وإضحاك الناس، وتدريجيا أمام سلسلة من الأحداث التي يكون هو ضحيتها، يقتنع بأن الحل هو إخراج المارد الذي بداخله في هيئة جوكر مزعج، وهنا تتسارع أحداث الفيلم، ومعه يرتفع حتى إيقاع الموسيقى، فيدخل المشاهد في سباق محموم يضج بالمشاعر والعواطف المشحونة، والكثير من الأسئلة المقلقة، ربما أهمها، هل أنا معك جوكر؟ أم أنا ضد جوكر؟ ألا يمثل هذا جوكر المزعج جزء من شخصيتي؟ أسئلة ربما سترافق المشاهد حتى بعد مغادرته قاعة السينما، فهي أسئلة وجودية زاد من استشكالها تعقيد الحياة اليومية وضغط النظام العالمي، الذي عوض أن يحتفي بالفرد كقيمة كانت لبنة مهمة في بناء العالم الليبرالي الحداثي، تحول إلى مجرد رقم أو مستهلك في أفضل الأحوال، وهو ما عبر عنه جوكر وهو يبث شكواه لمعالجته النفسية "أشعر وكأنني غير مرئي بالنسبة للناس"، أليس هذا شعور فئات واسعة في العالم، أنها باتت مهمشة ولا صوت لها؟
تحذير من عنف العالم
استبق عرض الفيلم في دور السينما، تحذيرات أمنية في الولايات المتحدة وفي غيرها من الدول الأوروبية، والمبرر أن "جوكر" ربما يحرض على العنف والعصيان المدني ضد كل ما يمثل الدولة من أجهزة أمنية ومؤسسات، وانتشار الفوضى العامة، ليظهر بعد أسبوعين من عرض الفيلم أنها تقديرات في غير محلها، فالتأمل الواعي لهذا العمل السينمائي، سيسلك طريقا مغايرا لتبني العنف كرد فعل، بل سيقف مع نفسه للتأمل في أفكاره الداخلية وفي رؤيته للعالم، والمصارحة مع أفكاره السلبية، فبطل الفيلم ظل يردد أكثر من مرة أنه يعاني من أفكار سيئة.
لم يكن اختيار "كتاب النكات" الذي ظل جوكر يحمله معه طيلة فيلم من فراغ، فهي دعوة للمحاورة مع الذات، باستعمال الكتابة والصورة، حتى تصبح كل هذه الأفكار الخطيرة، شاخصة أمامه، وحينها يمكن أن يتعامل معها ويصححها، أو يحاول معالجتها.
وكما هو دعوة للتأمل الفردي، فهو دعوة للتفكير الجماعي في الجنون الذي ينزلق له العالم، والعنف غير المبرر الممارس ضد الأفراد، في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد أحال المخرج إلى ذلك من خلال إظهار السخرية التي تعرض لها جوكر في برنامج "تولك شو" وكيف أن مقدم البرنامج، (أدى الدور الممثل الكبير روبرت دي نيرو)، يظهر في الفيلم كيف أن نسبة المشاهدة والركض خلف إثارة الجدل، دفعت المقدم لتحويل "جوكر" لمادة للتندر والاستهزاء أمام المشاهدين، دون الاكتراث بالحالة النفسية لجوكر، وحتى دون استئذانه لإقحامه في معركة جلب المشاهدين، وكم من شخص وجد نفسه موضوع تشهير بحياته الشخصية وأسرته في مواقع التواصل الاجتماعي، فقط لأن جهة ما أو جهازا ما، قرر استعماله كمادة للرفع من المشاهدات ونيل الإعجاب.
إن أكثر ما نجح فيه فيلم "جوكر" هو فتح نقاش عالمي، عن العنف الممارس على الفرد، من طرف أجهزة الدولة، وأثرياء العالم، ووسائل الإعلام، والمجتمع، الجميع يرى في هذا الطائن البرئ صاحب الأحلام الصغيرة، مادة إما للاغتناء أو القمع أو تحقيق الشهرة، وكأن العالم ينتقل من مرحلة تحويل الفرد إلى سلعة، إلى تدمير كينونة الفرد وجعله مجرد رقم أو لا شيء، حينها سيجد هذا العالم مقاومة شرسة من أي فرد واعي يرفض القضاء على وجوده المعنوي، وعدم احترام أي خصوصية له، وهذه أكبر معارك عصرنا الحالي.