عرب لندن
هز يوم 7 أكتوبر كيان العالم أجمع، بينهم السياسيون في مختلف بقاع العالم. وحرك هجوم حماس على إسرائيل مكنونات الساسة البريطانيين، كلُّن لجدوى متباينة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات العامة حينها، والتي دنت الآن فجأة دون سابق إنذار لتوافق يوم 4 يوليو.
ومنذ أكتوبر حتى اللحظة، تغيرت مواقف العديد من الساسة البريطانيين، خاصة مع تكتل الناخبين ضمن جماعات هددت بالامتناع عن التصويت لمختلف الأحزاب.
ومن بين الأحزاب الرئيسة التي كان فيها تحول المسار واضحا، حزب العمال الذي تخبط يمينا ويسارا، قبل اتخاذ قفزة كبيرة قبيل الانتخابات.
فعند بادئ الحرب، كان زعيم العمّال كير ستارمر، حازما بشأن موقفه، والذي بدأه بالتشجيع على قطع سبل الحياة عن الغزيين، كالماء والغذاء والوقود، رغم كونه محام مختص في شؤون حقوق الإنسان.
كما قال ستارمر بأنه يؤمن أن إسرائيل تملك الحق في الدفاع عن نفسها، في حين أن على حماس تحمل الوضع برمته.
ويوم 17 أكتوبر، اليوم الذي قصفت فيه إسرائيل المستشفى الأهلي العربي المعمداني، امتنع ستارمر عن إدانة هجمة إسرائيل، مما أثار حفيظة سفير فلسطين لدى المملكة المتحدة حسام زملط، والذي قال: "لماذا لا يمكنك إدانة هذا؟ لماذا يعتبر هذا الأمر صعبًا للغاية بالنسبة لشخص لديه خلفية في قانون حقوق الإنسان؟ هل لأن الضحايا فلسطينيون؟".
وحتى حينما أبدى ستارمر انزعاجه من قتل المدنيين، رفض في كل مرة إدانة إسرائيل مكتفيا بجملة "يجب احترام القانون الدولي"، دون أي ذكر لكلمة "إسرائيل".
ومع اشتعال الشوارع البريطانية زاخرة بالغضب والاحتقان تجاه ما يحدث في غزة من إبادة وتجويع، أطلق ستارمر بيانا في آخر يوم من أكتوبر/تشرين الأول، نشره الحزب على موقعه الالكتروني، رفض فيه المطالبة بوقف إطلاق النار وذلك بشكل علني مبررا ذلك بالتالي:
" أولاً، لأن وقف إطلاق النار يؤدي دائماً إلى تجميد أي صراع في الدولة التي يقع فيها حالياً."
"من شأنه -وقف إطلاق النار- أن يترك لحماس البنية التحتية والقدرة على تنفيذ نوع الهجوم الذي رأيناه في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)."
"وسوف تتشجع حماس لتبدأ في الاستعداد لإبداء العنف في المستقبل وعلى الفور."
وأتبع: "هذا هو السياق الذي يفسر السبب الثاني الذي أطرحه، وهو أن دعواتنا الحالية لوقف القتال لأغراض إنسانية واضحة ومحددة، والتي يجب أن تبدأ فوراً، هي دعوات صحيحة من الناحية العملية والمبدئية. "
"وفي الواقع، فهو - في هذه اللحظة - النهج الوحيد الموثوق الذي لديه أي فرصة لتحقيق ما نريد جميعا أن نراه في غزة - التخفيف العاجل من معاناة الفلسطينيين."
وفي نوفمبر بدأت الانقسامات داخل الحزب بالظهور، إلا أنه صمّ آذانه عن سماع صوت أعضاء حزبه.
وسعى كير ستارمر إلى تصوير حزب العمال على أنه موحد في موقفه بشأن الصراع بين إسرائيل وحماس، حيث أصر على أن الدعوات لوقف إطلاق النار والوقف الإنساني "تأتي من نفس المكان".
وحاول ستارمر تحويل الانتباه مرة أخرى إلى المحافظين، من خلال خطاب ألقاه أمام غرفة التجارة الشمالية الشرقية في مقاطعة دورهام، انتقد فيه خطاب زعيمه ووصفه بأنه "بيان للعام الرابع عشر من فشل حزب المحافظين وبندقية البداية".
وعلى الرغم من المحاولات، فشل ستارمر في تحييد الضغوط التي يتعرض لها داخل الحزب، حيث تأجج مستوى الغضب داخل القاعدة الشعبية للعمال، بل والرأي العام، وأخدت الجرائم الإسرائيلية في الازدياد حجما وشكلا، مما جعل موقف الاستياء منها أمرا لا يمكن التنحي عنه.
وواجه زعيم حزب العمال اتهامات من كبار زملائه بأن تعليقاته السابقة حول الصراع تفتقر إلى "التعاطف" و"الإنسانية". ودعا زعماء مجلسي حزب العمال في لانكشاير، بيرنلي وبندل، ستارمر إلى الاستقالة بسبب موقفه.
من جانب آخر سعت شخصيات بارزة في حزب العمال إلى التقليل من فكرة الانقسامات الناشئة داخل الحزب، محاولين بذلك إخفاء تلك الانقسامات. بل وكانت حجة العديد منهم أن الخلافات حول موقف الحزب من إسرائيل وغزة تحدث خارج إطار الحزب أيضا، مستعينين بمثال أن العديد من المؤسسات بما في ذلك الجامعات تعاني منها -الخلافات- أيضا.
وبدا حينها أن زعيم حزب العمال يعتقد أن أفضل طريقة لإظهار سلطته داخل الحزب هي التركيز على "الطريقة الأكثر عملية لتخفيف الوضع على الأرض"، وهو ما يعتقد أنه يعني البقاء متحالفًا مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، والقادة في الشرق الأوسط حتى يتمكنوا من العمل معًا و"قول نفس الشيء في نفس الوقت".
وهنا غير ستامر موقفه حول المعونات وتوفير الحاجات الإنسانية قائلا: "بالنسبة لي، لا يتعلق الأمر بالموقف الخاص الذي يتخذه الأفراد داخل الحزب. يتعلق الأمر بتخفيف تلك المعاناة - معاناة الغزيين-. وفي الوقت الحالي، نحن في حاجة ماسة إلى أن تصل المساعدات الإنسانية بشكل أسرع إلى غزة."
وفي يناير، ظهر إلى السطح موقف مغاير تجاه القضية، حيث انتقد كير ستارمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قائلاً إنه "مخطئ" في رفض التحركات الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية.
وكثف زعيم حزب العمال انتقاداته للحكومة الإسرائيلية، بعد أن قال نتنياهو للبيت الأبيض إنه يرفض أي تحركات لإقامة دولة فلسطينية عندما تنهي إسرائيل هجومها على غزة، وأن جميع الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن ستكون تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
وجاء هذا لعدة أسباب، أهمها موجة استقالة العديد من الأعضاء والمرشحين على مدار الأشهر منذ أكتوبر، فقد استقال عدد من الأعضاء المسلمين وأنصار القضية الفلسطينية، خاصة بعد إصدار إدارة الحزب مذكرة تحذر الأعضاء من المشاركة في المسيرات والاحتجاجات المعارضة لإسرائيل وما تنتهجه بحق غزة.
وقد دعم ستارمر "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" في غزة ضد حماس، لكنه دعا في الآونة الأخيرة إلى وقف دائم لإطلاق النار.
كما دعا لإقامة دولة فلسطينية مؤكدا أن هذا حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف. إنها أيضًا الطريقة الوحيدة لتسوية آمنة ومستقبل آمن".
وتضاعف التوتر داخل الحزب، حيث ضغط عليه الكثيرون في الحزب ليكون أكثر انتقادًا للعمل العسكري الإسرائيلي الذي تسبب في مقتل ما يقدر بنحو 24,000 شخص حينها.
"الدولة الفلسطينية ليست هدية من جار. وهذا حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف. إنها أيضًا الطريقة الوحيدة لتسوية آمنة ومستقبل آمن".
لكن تفاصيل وقف إطلاق النار من وجهة نظر ستارمر لم تكن صريحة بعد، فللمرة الأولى منذ هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، دعا حزب العمال في فبراير إلى "وقف فوري لإطلاق النار في غزة"، على الرغم من أنه يؤكد ذلك بقوله إن وقف إطلاق النار يجب أن يكون "إنسانياً". وهنا يكمن الفرق وهو مهم.
فقال حزب العمل إن وقف إطلاق النار يجب أن يتم فقط إذا وافق الجانبان على ذلك، وأنه لا يمكن توقع أن توقف إسرائيل القتال إذا استمرت حماس في التهديد بمزيد من الهجمات.
وبخلاف ذلك، أراد الحزب وقف القتال للسماح بوصول المساعدات إلى غزة.
والفرق بين الموقف حينها والموقف الذي اتخذه الحزب العام الماضي هو استخدام كلمة "وقف إطلاق النار". وفي نوفمبر/تشرين الثاني، دعا الحزب إلى "وقف دائم للقتال"، وطلب من نوابه الامتناع عن التصويت على اقتراح الحزب الوطني الاسكتلندي الذي يدعو صراحة إلى وقف إطلاق النار.
ومنذ ذلك التصويت، تلقى العديد من أعضاء البرلمان من حزب العمال وابلًا من الرسائل من الناخبين الغاضبين يسألون عن سبب تصويتهم ضد وقف إطلاق النار، وكانوا يكافحون من أجل تفسير الفارق الدقيق في التصويت في نوفمبر.
وفي أبريل قالت وزيرة العدل في حكومة الظل العمالية، في لقاء لها مع صحيفة التايمز، أن حزب العمال خسر ثقة المسلمين بسبب حرب غزة، مشيرة حينها إلى أن حزبها قد يجد صعوبة في إصلاح العلاقات مع المجتمعات الإسلامية، بسبب ردة الفعل على مواقف ستارمر، في إشارة إلى مواقفه إزاء الحرب العدوانية لإسرائيل على القطاع.
وفي مايو، أصدرت مجموعة إسلامية لستارمر، بيانا يضم 18 مطلبًا لاستعادة دعمهم له خلال الانتخابات العامة المقبلة.
وقالت جماعة "الصوت المسلم" في بريطانيا أنهم تخلوا عن العمال بسبب موقفهم من العدوان الإسرائيلي على غزة.
وأوضحت المجموعة التي تهدف لتوجيه الناخبين ضد النواب الذين لم يدعموا وقف إطلاق النار على غزة، مطالبة ستامر بالاعتذار عن موقفه مبكرا من الحملة الإسرائيلية ضد حماس.
كما طالبت المجموعة إلغاء تعريف التطرف الجديد، الذي سنّه وزير المجتمعات المحلية مايكل غوف، إلى جانب فرض حظر سفر على السياسيين الذين يدعمون العدوان القائم.
وبالعودة إلى البيان الانتخابي الذي صدر عن ستارمر مؤخرا، تعهد الأخير أنه سيعترف بالدولة الفلسطينية قبل انتهاء محادثات السلام، قائلاً إن "الدولة الفلسطينية هي حق الشعب الفلسطيني غير قابل للتصرف".
وينص البيان على أن "الدولة المجاورة" - في إشارة محتملة إلى إسرائيل - لا ينبغي أن يكون لها حق النقض على منح الدولة الفلسطينية. لكن الحزب يقول إنه لا يزال ملتزما بـ"حل الدولتين" وحق إسرائيل في الوجود.
وعلى غرار العمال، لم يذكر حزب المحافظين كلمة "فلسطين" لمرة واحدة في بيانه الانتخابي الأخير واكتفى بالقول: "نحن نقف بقوة وراء حق إسرائيل الدفاع عن نفسها والعيش بأمان. وسوف نستمر في دعم وصول المساعدات لهؤلاء المتضررين من الصراع."
وتعامل حزب المحافظين أيضًا مع التداعيات السياسية الناجمة عن الصراع في غزة. وفي حين كان المحافظون تقليدياً أكثر انحيازاً لإسرائيل، فقد أدت الأحداث الأخيرة إلى تحول في المشاعر العامة، حيث أشار استطلاع إلى أن 62% من المسلمين البريطانيين إلى أن وجهة نظرهم لحزب المحافظين أصبحت أكثر سلبية. يمثل هذا التحول تحديًا للمحافظين في سعيهم للحفاظ على مكانتهم السياسية، مع معالجة المخاوف بشأن تعاملهم مع الصراعات الدولية وقضية تصاعد معاداة السامية وكراهية الإسلام تحت مراقبتهم.
ولا يقتصر هذا التحول في الولاء على السكان المسلمين وحدهم. فعبر الطيف الأوسع للمجتمع البريطاني ثمة استياء من انحياز حكومة بلادهم لإسرائيل. وقد قوبلت الدعوات لوقف إطلاق النار بردود فاترة من القادة السياسيين، مما زاد من تنفير قطاعات واسعة من الناخبين، وخاصة الناخبين الأصغر سنا كما تبين.
ختاما، بعد 8 أشهر من صمّ ستارمر آذانه عن مجريات الحرب على غزة، ورفض الشارع البريطاني لها، يشعر الناخب العربي والمسلم بعدم الثقة في حزب العمال وتتجه الغالبية الكبرى لمعاقبته في هذه الانتخابات عبر التصويت للمرشحين العرب والمستقلين، والمرشحين من الأحزاب الأخرى كحزب الخضر وحزب الليبراليين الديمقراطيين.
وعلى الرغم من تغير وعود ستارمر ولهجته إزاء القضية الفلسطينية، إلا أنه الثقة بينه وبين المجتمع العربي باتت شبه معدومة.
فهل يلتزم ستارمر فعلا بوعوده تجاه القضية الفلسطينية، أم هي مجرد وعود كاذبة للوصول للسلطة..؟