بقلم المستشار القانوني علي القدومي
تعد الأزمة الإنسانية المستمرة في غزة تذكيرًا صارخًا بالمآزق الأخلاقية والتشابكات السياسية التي يواجهها المجتمع الدولي. وعلى الرغم من الأدلة الواضحة على المعاناة الإنسانية والدمار، وما يعتبره الكثيرون إبادة جماعية، فإن معظم دول الغرب والقوى الدولية الأخرى التزمت صمتًا ملحوظًا أو قدمت ردود فعل فاترة. هذا الصمت ليس فقط محيرًا ولكنه يثير القلق العميق، ويطرح أسئلة عاجلة حول الأولويات السياسية، وتأطير وسائل الإعلام، وفشل المؤسسات الدولية.
السياق التاريخي: صراع طويل الأمد
تعود جذور الصراع في غزة إلى النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني الأوسع نطاقًا، والذي يعود إلى أوائل القرن العشرين. هذا الصراع، الذي تفاقم بسبب الإرث الاستعماري، والحركات القومية المتنافسة، والنزاعات الإقليمية غير المحسومة، خلق واحدة من أطول الأزمات في العالم. وتعد غزة، وهي شريط صغير من الأرض يعيش فيه أكثر من مليوني فلسطيني، مسرحًا لحملات عسكرية متكررة وحصار اقتصادي وتدهور في سبل العيش.
على مدى عقود، كان المجتمع الدولي على دراية بالظروف المأساوية في غزة. وقد وصفتها الأمم المتحدة مرارًا بأنها "سجن مفتوح"، حيث تُنتهك الحقوق الأساسية للإنسان، بما في ذلك الوصول إلى الغذاء والماء والرعاية الطبية. ومع ذلك، على الرغم من هذا الإدراك، كانت الردود الدولية تتسم بالتخاذل، مما سمح بتفاقم الوضع.
سؤال الإبادة الجماعية: الأدلة والمصطلحات
يشكل مصطلح "الإبادة الجماعية" عبئًا قانونيًا وأخلاقيًا كبيرًا، حيث يُعرّف وفقًا لاتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 بأنه أعمال تُرتكب بنية تدمير كلي أو جزئي لمجموعة وطنية أو إثنية أو عرقية أو دينية. وقد جادل العديد من الخبراء ومنظمات حقوق الإنسان بأن التدمير الممنهج للبنية التحتية في غزة، وقتل المدنيين بشكل غير متناسب، والهجمات الموجهة ضد الخدمات الأساسية مثل المستشفيات والمدارس تندرج ضمن هذا التعريف.
وقد أسفرت العمليات العسكرية المستمرة في غزة عن مقتل آلاف المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، وتشريد واسع النطاق. دُمرت أحياء بأكملها، وتم تعطيل الممرات الإنسانية. وعلى الرغم من هذه الفظائع، يظل استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية" موضع خلاف وغالبًا ما يُرفض من قبل القادة السياسيين ووسائل الإعلام الغربية، مما يزيد من إسكات هذه الرواية.
لماذا الصمت؟
أ. التحالفات الجيوسياسية
أحد الأسباب الرئيسية لصمت الغرب هو دعمه الثابت لإسرائيل. إذ تُعتبر إسرائيل حليفًا استراتيجيًا، لا سيما من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، في منطقة تتميز بعدم الاستقرار. تقدم الولايات المتحدة لإسرائيل مليارات الدولارات كمساعدات عسكرية سنويًا، وهو ما يُبرر بشعارات القيم الديمقراطية والمصالح الأمنية المشتركة.
التحدث ضد أفعال إسرائيل في غزة يمثل مخاطرة سياسية لقادة الغرب. إذ يُعرضهم ذلك لخطر إغضاب حليف قوي، ومواجهة انتقادات جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، وتعقيد الحسابات السياسية المحلية. وغالبًا ما تطغى هذه الحسابات الجيوسياسية على المخاوف الإنسانية، مما يؤدي إلى كبح النقد عن عمد.
ب. تأطير وسائل الإعلام والتحكم في السرد
تلعب وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب دورًا كبيرًا في تشكيل التصورات العامة. وغالبًا ما يعكس تغطيتها للصراع في غزة تحيزًا، حيث تصوره على أنه حرب ذات طرفين بدلاً من اعتداء غير متكافئ على سكان لا يملكون وسائل دفاع.
يتفاقم هذا التحيز بسبب نقص الوصول إلى غزة للصحفيين الدوليين، الذين يعتمدون بشدة على الروايات الرسمية. ونتيجة لذلك، تُطمس أصوات الغزيين، وتُختزل معاناتهم إلى مجرد أرقام في نسخة معقمة من الأحداث.
ج. الخوف من اتهامات بمعاداة السامية
عامل آخر مهم هو الخوف من اتهامات بمعاداة السامية، وهو اتهام غالبًا ما يُستخدم لإسكات الانتقادات المشروعة للسياسات الإسرائيلية. السياسيون والنشطاء والصحفيون يتوخون الحذر لتجنب عبور هذا الخط، الذي قد تكون له عواقب شخصية ومهنية وخيمة.
في حين أن معاداة السامية قضية حقيقية وجدية، إلا أن الخلط بينها وبين انتقاد أفعال الدولة الإسرائيلية يخلق تأثيرًا مروعًا على الخطاب. وهذا الخلط يسكت الأصوات المدافعة عن حقوق الفلسطينيين ويُعزز الإفلات من العقاب الذي تعمل به إسرائيل في غزة.
د. المصالح الاقتصادية
إلى جانب الجغرافيا السياسية، تلعب المصالح الاقتصادية أيضًا دورًا. تُعد إسرائيل مركزًا للابتكار التكنولوجي وصناعة الدفاع، مما يجعلها شريكًا تجاريًا جذابًا للعديد من الدول الغربية. وانتقاد إسرائيل يعرض العلاقات الاقتصادية المربحة للخطر، وهو عامل آخر يساهم في التردد في إدانة أفعالها في غزة.
دور المؤسسات الدولية
فشلت الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى مرارًا في محاسبة إسرائيل على أفعالها في غزة. وعلى الرغم من العديد من القرارات التي تدين السياسات الإسرائيلية، تظل آليات التنفيذ ضعيفة أو غير موجودة. ويُعيق مجلس الأمن الدولي، على وجه الخصوص، استخدام الولايات المتحدة لحق النقض (الفيتو) ضد الإجراءات التي تنتقد إسرائيل.
هذا الشلل يقوض مصداقية القانون الدولي ويكشف عن ازدواجية المعايير في تطبيقه. في حين واجهت دول أخرى عقوبات وتدخلات بسبب انتهاكات أقل حدة، تستمر إسرائيل في العمل دون رادع، محمية بحلفائها الأقوياء.
المجتمع المدني والحركات الشعبية
في حين أن الحكومات والمؤسسات تلتزم الصمت، كانت المجتمعات المدنية أكثر صخبًا. شهدت المدن في جميع أنحاء العالم، من لندن إلى نيويورك إلى جوهانسبرغ، احتجاجات تسلط الضوء على محنة الغزيين. يستمر النشطاء ومنظمات حقوق الإنسان في توثيق الانتهاكات، وزيادة الوعي، والمطالبة بالمحاسبة.
كما ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي كأداة قوية لتضخيم أصوات الفلسطينيين، متجاوزة وسائل الإعلام التقليدية. ومع ذلك، غالبًا ما تواجه هذه الجهود الرقابة، والحجب، وحملات التشويه، مما يحد من تأثيرها.
التداعيات الأخلاقية وكلفة الصمت
يترك صمت الغرب ومعظم العالم تداعيات أخلاقية عميقة. فهو يشير إلى استعداد لتغليب الحسابات السياسية على حياة الإنسان، وتسامح مع الفظائع عندما تُرتكب من قبل الحلفاء، وتطبيق انتقائي لمبادئ العدالة وحقوق الإنسان.
يعزز هذا الصمت أيضًا الأنظمة الاستبدادية الأخرى، مما يقوض الجهود العالمية لدعم حقوق الإنسان. إذا كان المجتمع الدولي غير قادر على محاسبة حليف ديمقراطي مثل إسرائيل، فما الأمل في معالجة الانتهاكات في الأنظمة الأقل شفافية؟
كسر الصمت: ما الذي يجب تغييره؟
يتطلب كسر الصمت تغييرًا جذريًا في المواقف السياسية والعامة. يجب على الحكومات إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان على المصالح الجيوسياسية، والتصدي لأفعال إسرائيل في غزة بنفس الحماس الذي يُطبق على الدول الأخرى. يجب أن تسعى وسائل الإعلام إلى تقديم تغطية متوازنة، لضمان سماع أصوات الغزيين وعدم طمس معاناتهم.
يجب على المؤسسات الدولية أيضًا الإصلاح لمنع الدول القوية من حماية حلفائها. يشمل ذلك إعادة النظر في حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن وتعزيز آليات المساءلة.
الخاتمة: دعوة للعمل