عاطف الشاعر - كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

نظّمت مجموعة من الناشطات والناشطين في "جامعة وستمنستر" بلندن، خلال الأسبوع الماضي، وقفةً من أجل غزّة، وذلك تلبية لدعوة لبّاها كثيرٌ من الجامعات البريطانية. وقد جرى التركيز على علماء غزة ومفكّريها الذين استشهدوا خلال العدوان الإسرائيلي. 

حضرتُ مع عدد من الطلبة والطالبات والموظّفين، وقرأنا قصائد من وحي المأساة الفلسطينية، وقرأنا كذلك أسماء بعض من الشهداء، ووقفنا لدقيقتين حداداً على أرواحهم.

حين أُدعى للمشاركة في مناسبات من هذا النوع في بريطانيا، أشعر بالحرج، وبأنّ لغتي متهالكة أمام الحدث الجلل الذي تعيشه غزّة، وفلسطين عموماً. فالشِّعر خجولٌ واللّغة منهكة، وكأنَّني في حيرة من أمري، أبحث عن خلاص ما خارج حدود اللغة والحياة، ولكن لا مناص من هاتين الصورتين، العيش في الحياة واللغة معاً، لوجودنا المهلهل.

وفي الوقت نفسه، أشعر بالدفء وبتضامن الناس مع أهلنا الضحايا في غزّة، وأشعر بعجزهم وقلّة حيلة الشرفاء عن فعل ما يكفي لوقف المذبحة والدمار. أفكّر في أنّ الإنسانية باقية ما بقيت الحياة، لكن هناك من بيده القوة ويعمل على تشويهها وتحريفها وقتلها.

أفكّر في العالم العربي والإسلامي ووقفاته العابرة الخجولة

عندما كنّا نقرأ أسماء الضحايا، ونرفع صور بعض من شهدائنا الأبرار، بدت الوجوه والعيون وكأنّها لا تصدّق ما تشهد وتحسّ من فداحة الحالة، ومن الظلم، ومن الفجاعة بأنّ هذه المجزرة ما زالت مستمرّة، وبأنّ هؤلاء الأبرياء قُتلوا هكذا، وأنّ المنظومة الصهيونية عازمة على فرض الموت والدمار إلى ما لانهاية على الفلسطينيّين، وخصوصاً على الأطفال. إنّها لفكرة وصورة مرعبة وتبثُّ الغضب في كلّ أطراف الجسم. كان واضحاً أنَّ الأبدان مقشعرّة والقلوب متأزّمة، وأنّ هناك غضباً مستعراً ضدَّ الظلم وقتلة الحياة والإنسانية.

وأفكّر في سبات ما يُسمّى العالم العربي والإسلامي، ووقفاته العابرة الخجولة هنا وهناك. يا للعار!

أفكّر في هؤلاء الناس العاديّين في الغرب، أولئك الذين يتظاهرون كلّ أسبوع في العواصم الغربية ومدن كثيرة ضدّ الإبادة الإسرائيلية في غزّة. أفكّر في كثير من الفعاليات الثقافية والتوعوية التي لا تكاد جامعة في بريطانيا تخلو منها من أجل الهدف نفسه، وفي كثير من المكلومة قلوبهم بسبب ما يحدث. أفكّر في الأطبّاء وغيرهم من المهنيّين والحرفيّين الذين يتظاهرون ضدّ المقتلة. أفكّر في من يسدّون الطرق أمام مواكب الساسة المجرمين الداعمين للمقتلة، وفي هؤلاء الذين يصرخون في وجوههم: "ألا تخجلون؟ كيف تنامون الليل؟".

هؤلاء شرفاء وأحرار. وعندما نستخدم مصطلح الغرب بالمعنى السلبي كشريك في الجريمة، علينا ألّا ننسى هؤلاء. وهؤلاء هُم الأشقّاء والشقيقات حقّاً، الإخوة والأخوات في الإنسانية. أعرف كثيراً من هؤلاء، ممّن يتبرّع، وممّن يبذل الغالي والنفيس من وقته وجهده، وممّن يكتب، وممّن يرسل مساعدات، وممّن يتظاهر داخل متاجر ضدّ بيع منتجات إسرائيلية في أسواق الغرب، لأنّها تساعد اقتصاد الاستعمار الصهيوني وأدوات بطشه، وممّن يكتبون قصائد، وممّن يصلّون بكلّ صدق وإخلاص من أجل حرّية وخلاص فلسطين المكلومة.

وفي الوقت نفسه، هناك فاجعة الجهات الرسمية، من الحكومات والإعلام المملوك لأشخاص بأجندات معيَّنة، وكذلك رؤساء مؤسّسات مرموقة، ممّن ينتظرون ترقية في وظائفهم على حساب الحقوق الفلسطينية، فلا يتحدّثون إلّا عن "معاداة السامية"، تلك الشمّاعة المحروقة للصهيونية المتوحّشة، وأنصارها من تجّار السلاح والدم.

لا أعرف على من يُعوَّل بينما المقتلة الإسرائيلية ضدّ الأهل في غزّة مستمرّة، فالصورة قاتمة، والوقت لا يكاد يحتمل عبارات من قبيل "على المدى القصير" و"على المدى البعيد". الأمل والتحليل يتطلّبان هذا، لكن حياة أهلنا في غزّة تتطلّب "الآن"، تتطلّب الآن الذي يتوقّف فيه الموت والدمار وتعود الحياة، يعود الضجر، ويعود البناء، ويعود الإنسان الفلسطيني سالماً آمناً من قهر الاحتلال وحسابات السياسيّين المجرمة.



 

السابق من يلبس عباءة الإسلام ويتمسح بالعروبة ولمن أعماله تتناقض مع مبادئه
التالي عرب بريطانيا وحرب غزة