محمد أمين 

كاتب فلسطيني 

  منذ شنت إسرائيل عدوانها الوحشي على قطاع غزة، وحرب إبادتها للفلسطينيين في القطاع، وفي عموم الأرض المحتلة، امتلأت الشوارع والميادين في أوروبا وأمريكا بالتظاهرات المنددة بالعدوان الإسرائيلي، كما زلل المتظاهرون شوارع بريطانيا ومدنها بمظاهرات مليونية لم يسبق لها مثيل، أطاحت مفاعيلها بوزيرة داخليتها سويلا برافرمان المعادية لفلسطين والمناصرة لإسرائيل وفاشيتها، فقد وصفت الوزيرة "المقالة لاحقا" مظاهرات التنديد بالعدوان على غزة وحرب الإبادة بأنها " مظاهرات كراهية"!!، في تماهٍ كامل مع اللغة والخطاب الإسرائيلي العنصري الفاشي، لكن بالمحصلة طردت هذه الوزيرة غير مأسوف عليها، وبقيت المظاهرات المناصرة لفلسطين، بل واتسعت.

 وفي ظل تواصل الحرب الوحشية، الهمجية، الفاشية التي سقط في اختبارها الأخلاقي والإنساني معظم ساسة الدول الغربية، بدى واضحا أن الشارع الغربي وأنصار الحريات كانوا على الجهة المعاكسة لمواقف حكوماتهم، إذ شاهدنا نزول طلاب الجامعات والعمال والنقابات ومختلف أطياف المجتمع للشوارع للمطالبة بوقف إطلاق النار، ما يعكس انحسارا وتراجعا للرواية الإسرائيلية على مستوى الرأي العام الدولي.

 وفي سياق معركة الرأي العام في الساحة الغربية، فإن من الضروري جدا تسليط الضوء على دور الجاليات العربية والمسلمة عموما، وفي بريطانيا تحديدا حيث سيعالج المقال هذه الساحة، حيث إن الحاجة ملحة جدا لمواصلة الجاليات تحركها واستنهاض قواها والإفادة من هذه الهبة التي وحدتها وجمعتها في مظاهرات وفعاليات عديدة، وذلك عبر تشكيل روابط ومؤسسات ومؤتمرات تجمعها وتوحد نشاطها، وتعرفها بالأدوات العديدة التي تمتلكها، فالعرب والمسلمون في بريطانيا على سبيل المثال ربما يصل عددهم لقرابة 6 ملايين، ب 6 ملايين صوت انتخابي قادرة على تحديد مصير عديد من المدن، وأعضاء البرلمان، وهي ورقة بالغة الأهمية.

مؤخرا أطلقت في بريطانيا حملة بعنوان "الصوت مقابل الموقف"، وبرأيي فإن هذه حملة بالغة الأهمية في استعمال الأوراق والأدوات التي يتيحها النظام الديمقراطي في هذه البلاد، وتكفلها القوانين لكل مواطني المملكة المتحدة، ولتحقيق ذلك ينبغي أولا: الإيمان بهذه القوة التصويتية التي تمتلكها الجالية، وثانيا: التحرر من الخوف والسلبية وعدم إسقاط تجارب بلداننا الأصلية على الساحة البريطانية، فرغم كل الحملة التي شنها اللوبي الصهيوني وحلفاؤه في اليمين المتطرف، إلا أنهم فشلوا في تجريم المظاهرات، وأخفقوا في إخافة الناس ومنعهم من التظاهر والكتابة والحديث، بل ولّد ذلك الترهيب والانحياز الفاضح والمستفز جدا حالة تحد مضاعفة لدى كثير من النشطاء البريطانيين الذين اعتلوا منصات السوشيال ميديا، وضاعفوا من حديثهم عن جرائم إسرائيل وفضحها، والإعابة على بلدانهم الاشتراك فيها وتبني أكاذيب إسرائيل، كما كثف ذلك الترهيب والتخويف من مشاركة الجماهير في المظاهرات المناصرة لفلسطين.

إن التحرر من عقدة الخوف، والتي يمكن أن تتحقق عبر توعية الجالية بالممارسات المكفولة لها قانونيا، هي اللبنة الأولى للتأثير والعمل، وبالأدوات التي يملكونها من مثل إرسال رسائل بكثافة لنواب منطقتهم وحثهم على العمل على وقف حرب الإبادة، والتبيان لهم بأن اتخاذ مواقف منافية لذلك سيؤدي لخسارتهم لأصواتهم وأصوات عموم الجالية، وتحديد مواعيد لمقابلتهم وجها لوجه وشرح خطورة ما يرتكب في غزة وعموم فلسطين المحتلة، وخطورة دعمهم للاحتلال الإسرائيلي وتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، وعواقب ذلك، وكذلك الشرح لهم أن من مصلحة بريطانيا عدم تكرار أخطاء الماضي في التورط بحروب إبادة قتلت فيها ملايين الأطفال والنساء، ونموذج الجرائم المرتكبة في العراق ما زال جليا.

 ومن المبادرات العملية كذلك ما أقدم عليه "المؤتمر الأول للجالية العربية في بريطانيا" مطلع نوفمبر بإرسال خطاب لرئيس الوزراء البريطاني يحذره فيه من مغبة التورط في دعم حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل، ويدعوه فيها لعدم تكرار أخطاء الماضي، ويعلي الصوت كجالية عربية ومسلمة برفضهم كمواطنين بريطانيين لهذا المسار، الأمر الذي شكل ضغطا أوجب عليه الرد برسالة للمؤتمر، ما يعني أن الضغط يؤتي ثماره، على الأقل بإشعار رئيس الوزراء والنواب بأنهم أمام جالية كبيرة لديها وزن انتخابي، ورأيها ينبغي أن يكون محل احترام، وفتح أقنية للتواصل والبناء عليها.

 اللوبي يعني المال والصوت والانتخابي، تمتلك الجالية على الأقل العنصر الثاني، فضلا عن منصات السوشيال ميديا التي حررت الإعلام من سطوة اللوبي الصهيوني وسطوة رؤوس الأموال، فحرب الرواية بلغة هذه البلدان تحتاج جهودا مضاعفة من شباب الجيل الثالث الذين ولدوا في بريطانيا، ودرسوا فيها، وهؤلاء يحتاجون تشجيعا مستمرا ودعما واستثمارا حقيقيا فيهم، إضافة للنشطاء الإنجليز من أبناء هذه البلاد.

قضية فلسطين وحدت كل الجالية في الميادين، ولا يوجد قضية أخرى في الكرة الأرضية يمكنها توحيدهم بهذا الشكل، فيتوجب استثمار هذه الوحدة وتصليبها والبناء عليها، وتحييد كل الخلافات والنزاعات والمعارك الصغيرة الجانبية.

إن الجالية العربية والمسلمة لم تأت لأوروبا ترفا، ولا طلبا لرغد العيش فقط، فلهجرة كل فرد وجنسية وغربتهم قصة مختلفة، وكثير منهم عانى من البطش والظلم والتنكيل من الأنظمة الحاكمة في بلاده، فضلا عن الفلسطينيين الذين عانوا وما زالوا من أسوأ احتلال إحلالي كولونيالي عنصري، وآخر وأبشع نظام فصل عنصري في العالم، نضال كل الجاليات في ساحات أوروبا بالأدوات المكفولة لهم وفقا لقوانين هذه البلدان هو واجب وليس خيار، واجب وطني وأخلاقي وإنساني وديني، وأقل شيء يمكنهم تقديمه لأوطانهم وأهلهم، حيث يضحي أشقاؤهم بأعمارهم وأرواحهم بين احتلال غاشم وأنظمة مستبدة، فالنضال ضد الاحتلال والاستبداد هو معركة واحدة.

 

 

 

السابق بين التضامن والتخاذل
التالي اللوبي الصهيوني داخل حزب المحافظين يمول رحلات ثلث الوزراء لخدمة "إسرائيل"