جاد محمد – لندن

 روائية وشاعرة لبنانية بريطانية،أستاذة لغة عربية في جامعة سواس، صدر لها عدد من المجاميع الشعرية كان آخرها: حين تبكي مريم،رواية عشق، رواية ياقوت، ورواية تيريزا آكاديا.

  الكاتبة مريم مشتاوي تعد من المثقفات العربيات اللاتي اهتممن بشكل كبير بتسليط الضوء على حياة المرأة في الغربة،والربط بين المآسي الإنسانية ووقعها على نفسية المتلقي العربي٬وظلت الدكتورة مريم ملتزمة دائما بتكريس الأدب والثقافة للانتصار للقيم الإنسانية والكونية.

 في هذا الحوار تتحدث مريم عن مشروعها الأدبي ونظرتها للحالة الثقافية والأدبية في العالم العربي وموقفها من الحركة النقدية العربية.  

 

* كيف تنظرين إلى دور المثقف في عصرنا الحالي؟

 

 لعب المثقف في كل التاريخ الإنساني دورا تنويريا منذ الثورة الفرنسية، فلولا فولتير وديدرو وروسو، لما قامت هذه الثورة التي استلهمت أفكارهم في الحرية والعدالة والمساواة٬وفي عصرنا الحالي، ومنذ بداية القرن العشرين، كان للمثقف دوره البارز في الحركات الثورية التي ناهضت القمع والاستبداد والكولونالية،ودعت لحرية التعبير وحقوق الانسان، أي إنسان، مهما كان دينه وجنسه ولونه.

لقد ازدهرت حركة ثقافية كبيرة على المستوى العالمي بالتوازي مع صعود الاتجاهات الثورية،وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث.وفي منتصف القرن الماضي، عرفنا مثقفين وقفوا ككتاب وأشخاص ضد الصعود النازي والفاشي، ودفعوا ثمنا باهضا نتيجة مواقفهم، سجنا وقتلا ومنفى. 

ولكن نلاحظ اليوم  للأسف أن دور المثقف في مجتمعه قد تراجع لحد كبير لأسباب عديدة،منها تراجع الحركة الثورية التي ارتبط بها المثقف  خاصة في الخمسينات والستينات، بسبب طبيعة العصر الذي نعيش،وأيضا بسبب القمع والاضطهاد السياسي والفكري خاصة في منطقتنا العربية.

 أمام شعوري بالعجز، وأنا أعيش الأحداث في سوريا وموت الأطفال في البحار،وقضية اللاجئين ومآسيهم وجدت نفسي ملزمة ككاتبة أن أتحرك فلجأت إلى ما أستطيعه: الكتابة، شعورا بمسؤوليتي كإنسانة أولاً وككاتبة ثانياً في طرح القضايا الانسانية الكبرى علّ الكتابة تسهم في خلق بعض الوعي، وتدفع باتجاه عمل ما للتقليل من مأساتنا الإنسانية، وبشكل خاص مآسي الأطفال الذين هم ضحية للعبة الكبار.

شعرت أن القصيدة وهي ما أصفها بكبسولة مكثفة لا تسمح لي بالتعبير عن تفاصيل الألم ووصف كل المآسي التي تعصف باللاجئين فلجأت بدوري إلى الرواية و كتبت رواية "عشق" ثم رواية "ياقوت وبعدها "تيريزا أكاديا" وأخيراً "جسور الحب غرينفيل تاور".

 

* كيف تمكنت من الجمع بين صرامة العمل الأكاديمي وما يتطلبه العمل الأدبي من خيال ورحابة في اللغة؟

 

 -المعادلة طبعاً صعبة ليس فقط بسبب العمل الأكاديمي بل أيضاً لأني أم عاملة... ولكني أحاول جهدي أن أكون أماً ثم كاتبة ثم أستاذة جامعية... هكذا أرتب أولوياتي.. حين أكون مع الأولاد أعيش لهم فقط... وحين أكتب أتنسك... وحين أذهب إلى الجامعة أكون أستاذة وأركز على الجانب المهني،لكن لا فارق كبيراً بين مريم الأم والكاتبة والأستاذة... أنا لا أتجزأ حين أمارس أمومتي...

 فأحياناً أكون أماً حين أكتب.. وقد أعيش وجع الأمهات الأخريات في وطننا العربي... وأشعر بآلام في رحمي حين أعكس وجعهن في كتاباتي... وفي الجامعة أكون قريبة جداً من طلابي لأن أمومتي ترافقني،ولكن في نفس الوقت هناك زجاج فاصل بيننا لا يمكنهم اختراقه. أما لغتي فهي واحدة في الكتابة والتدريس ولكني أوظفها بشكل يتناسب مع أهدافي التدريسية أو لصالح الرواية.. والتدريس كالرواية  يحتاج لخيال ومرونة وبحث دائم وكثير من الحب والصبر.

 

 * أعمالك الروائية دائما ما نجد فيها الاغتراب والبعد عن الوطن.. هل يعكس هذا إحساسا ذاتياً بالحنين للوطن وذلك الانقسام الذي يعيشه المغترب بين الوطن الأم وبلاد المهجر؟

 

 -الحنين إلى الوطن ومرارة الاغتراب وأمواج الشوق المتدفقة هي حالات انسانية تتحكم بالكاتب المهاجر وتشق سواقيها في نصوصه.. ولا نشعر بالحنين فقط إلى أماكن مشينا فيها أو أحياء كبرنا في زواريبها ووجوه ألفناها في الصغر،بل قد تصل بنا حاجتنا الملحة للحب والشعور باللانتماء لاختراع ذكريات في أماكن موجودة في خارطة الوطن ولكن أقدامنا لم تطأها سابقاً..وكأن ذاكرتنا تتواطأ والحنين..

 

* هل يمكن القول إن أعمالك تندرج ضمن أدب الهجرة أو الرواية المهاجرة التي تركز على حياة المهاجرين من زوايا مختلفة؟

 

 -الكاتب ابن واقعه وتجاربه وبيئته التي نشأ فيها وذكرياته وقراءته.. لذلك كان للبنان النصيب الأكبر والمحطة الرئيسة التي انطلقت منها في معظم رواياتي.. والرواية الوحيدة التي لم يكن له ذكر فيها هي رواية "جسور الحب".

 

أما الهجرة فهي الواقع الذي عشته منذ سنوات بعد ما تركت بيروت،وهي المآساة التي نعيشها كل يوم طالما يحكمنا الطغاة ويأكلنا الفقر وتطاردنا الحروب.. وقد انعكس ذلك في رواياتي الأربع خصوصاً "رواية جسور الحب ، غرينفيل تاور".

 فقد اهتمت الرواية برصد الحالات الإنسانية للشعوب الفقيرة،وتعرضت لأحوال اللاجئين في بلاد تمنحهم الأمان لكن لا يجدون فيها بالمقابل عيشا رغيدا،بل قتالا من أجل الحياة أيضا، وسيكشف حريق برج غريفيل في بريطانيا تلك المعاني المؤلمة للحياة،مهاجرا بلا سند، وقد كانت النماذج التي تعرض لها النص واقعية إلى أقصى حد.

* المرأة حاضرة بقوة في كل أعمالك وبأشكال مختلفة، لو تقدمين لنا رؤيتك عن وضعية المرأة العربية المهاجرة هنا في بريطانيا وفي الغرب عموما؟

 

-بالنسبة لي بريطانيا وتحديداً أتحدث عن مدينة لندن هي مدينة للإنسان المبدع رجلاً كان أم امرأة،عربياً أو أجنبياً.

لندن مدينة حاضنة محبة للجميع٬لست بحاجة لأن آتي من خلفية سياسية معيّنة لأنجح في عملي ومجتمعي، ولا حتى أن أتبع تيارا أو حزبا أو زعيما سياسيا كما قد يحصل في وطني الأم أو في أي بلد عربي آخر. هنا، يكفي أن يجتهد الإنسان ليجني ثمار تعبه.

وبالنسبة للمرأة تحديداً، فإن العالم العربي يقلل من شأن المرأة وقدراتها، حتى مناصبها السياسة هي شكلية فقط،ولا يستطيعون مزج المرأة الحسنة المظهر مع الموهبة،وكأن على كل إمرأة ناجحة أو موهوبة أن تكون رثة المظهر.

 في لندن المرأة المجتهدة قبيحة كانت أم جميلة تصل إلى أحلامها،مدينة تقدّر الكفاءات تشجعها وتعتني بها.

هنا في هذه المدينة تعلمت أن الإنسان له حقوق فعلية مثل تلك التي قرأت عنها في الكتب حين كنت في بيروت.

* كيف يمكن النهوض بالأدب العربي ومواجهة تحدي تدني القراءة في المجتمعات العربية؟

 

واقع الحال الذي نلاحظه في الوطن العربي هو غياب منهجية النقد الحيادية غير المنفلتة من أي ضوابط على اختلاف أنواعها وتشعباتها،وتوجُّه معظم النقاد الحاليين إلى ما تمكن تسميته بالنفخ الأدبي،أي النقد التلميعي أو المقاربة البِلاطيّة إذا ما أردنا أن نقولها صراحة وعلانية، كل ذلك كي يستحوذ الناقد على رضا كبار الأدباء والشعراء والمبدعين أو حتى المبتدئين منهم،مختبئًا وراء قناع الصيغة التمجيدية للكاتب، بعيدًا عن أي مصداقية أدبية.

وينحصر السؤال هنا أين هو النقد العربي الذي يتصدى للأعمال الأدبية الرديئة التي تنتشر كالفِطر على رفوف المكتبات وتقتحم كبريات معارض الكتب العربية وتذهب أحيانا إلى حجز مكانة مرموقة لها في الفعاليات الثقافية الضخمة، هذا إن لم تشق طريقها نحو الجوائز الأدبية العربية ذات الطابع والهوية العالميَّين.

نكاد نقف أحيانا عاجزين أمام إيجاد لقاح مواتٍ لفيروس مديح كاذب، ينتحل صفة النقدية، متفشيًا داخل منظومة ثقافية تحكمها أكليشيهات بالية، مؤطَّرة باعتبارات ومصالح وتبادل «النقديات الأدبية» أو «الإخوانيات النقدية». وشتّان هنا بين هذه اللامهنية وبين ما يعتمده كبار النقاد الغربيين من منهجية نقدية تحتّم عليهم دراسة كل عمل أدبي على حدة، بعيدًا عن الاختباء وراء ألاعيب التعويم ومفردات التعميم والإشادة التي تصلح لكل عمل أدبي...

 التلوث الفكري

 ومن ثم يمكن القول إن «التلوث الفكري» ووفرة المعروض الأدبي كميا لا نوعيا في عالمنا العربي، يعود إلى أربعة أسباب رئيسة:

الأول هو أعمال أدبية سَيِّئَة بتعابيرها وأسلوبها ولغتها،أعمال تجنح نحو الابتذال المفرط.

والثاني هو تبعات الاعتبارات والمصالح الشخصية المتبادلة التي تفتك بدائرتنا الثقافية المغلقة بإحكام لتشد الخناق عليها، وتخنقها بسيل أعمال رديئة تشكل خطرًا يداهم البناء الثقافي والتراكم المعرفي لدى الجيل الجديد وبالتالي يؤثر على ذائقته الأدبية.

 الثالث هو دور النشر العربية التي تعتبر المتهم الأول في قضية استسهال معايير الكتابة وانتشار كتب قيمتها الوحيدة لا تتجاوز نوعية الورق والحبر الذي طبعت به. فكثير من هذه الدور هي من أصحاب مقولة «ادفع تطبع» أو النشر على الحساب الخاص.. لا لجان تقييم أو قراءة للأعمال الأدبية لديها، ولا مدققين لغويين يتعقبون الأخطاء.. والساحة متاحة أمام الجميع.

 هذه الكارثة الأدبية تهدد ثقافتنا، وتهين تراثنا الأدبي والفكري وتسيء إلى الكتاب أنفسهم حين تتضخم ذواتهم أمام ما ينتجونه من ركام منَ الكتب أغلبها لا يَصلُح ولا يُصلِح ولا يفيد ولا جمالية بل لا أدب فيه.

 ظاهرة الكتب السيئة هي الظاهرة السائدة في ثقافتنا العربية في ظل عدم وجود حركة نقدية قوية تقف لها بالمرصاد وتغربل الجيد من الرديء وتنصف المبدع الحقيقي وتكشف الزائف، ويمكن لمتابعي الحركة النقدية أن يلاحظوا بيسر أن النقاد الجادين قد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة في كل اختصاص أدبي.

 * كيف تقيمين وضع الإنتاج الأدبي النسوي في العالم العربي عموماً وفي المهجر خصوصاً؟

 -بالنسبة لي لا يوجد إنتاج أدبي نسوي..

فالكتابة هي كتابة سواء كتبها رجل أو امرأة . قد تكون هناك سمات معينة فيما تكتبه النساء كما فيما يكتبه الرجال، ولكن هذه ليست القضية الجوهرية فمثلاً من يستطيع أن يميز بين شعر أميلي ديكنسن وإزرا باوند الأدب الحقيقي لا جندر له!

السابق منحه جامعية باسمه.. ووالداه أتيا لدفنه.. مأساة شاب سوري بمحرقة غرنفل  
التالي مريم مشتاوي لعرب لندن: الكتابة شعور بالمسؤولية ..والمثقف تراجع دوره جراء القمع