حازم المنجد-عرب لندن
تحظى المكتبة البريطانية بمكانة مرموقة، وتحتل منزلة رفيعة في الأوساط العلمية والدوائر البحثية، تبوّأت على إثرها صدارة المكتبات في القارة الأوروبية، فهي تعد ثاني أكبر مكتبة على المستوى العام بعد مكتبة البيت الأبيض في الولايات المتحدة، إذ تحتوي قاعات المكتبة ما بين 170 إلى 200 مليون مادة بأكثر من 400 لغة، موزعة على أصناف ومقتنيات متعددة تشمل الكتب والمخطوطات والمطبوعات والخرائط، وكذلك الصحف والمجلات والنوتات الموسيقية وبراءات الاختراع، فضلاً عن قواعد البيانات والطوابع والرسومات والتسجيلات الصوتية، ناهيك عن عدد هائل من المواد الأرشيفية والعناصر التاريخية النادرة يعود بعضها لـ 2000 عام قبل الميلاد.
 


حقائق عن المبنى
هو أحد أكبر المباني العامة التي تم تشييدها في المملكة المتحدة خلال القرن الماضي، وضع تصميمه  المهندس المعماري البريطاني السير كولن سانت جون ويلسون عام 1962، وتمت الموافقة عليه عام 1979، وهو العام الذي صادف حدوث انتخابات عامة وتغيير الحكومة عقب فوز حزب المحافظين بزعامة مارغريت تاتشر وشروعها على الفور باتخاذ إجراءات تقشفية أدت لتأخر اكتمال بناء المبنى حتى عام 1997، ثم افتتح رسميا بعد ذلك بعام واحد من قبل الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أي أنه استغرق وقتاً دام لمدة 35 عاماً، نتيجة مقاومة شرسة لسكان المنطقة واعتراضهم على المشروع وما رافقها من اتهامات بالإسراف في نفقات الميزانية العامة، وحصول خلافات سياسية، وصفها ويلسون حينذاك بأنها "حرب الثلاثين عام".
وقد كان من المفترض أن يشيد المخطط الأصلي للمبنى بالقرب من المتحف البريطاني في بلومزبري، حيث كانت المكتبة تشغل جزء منه، لكن بعد احتجاجات عامة تم العثور على موقع جديد في شمال المتحف بين محطتي يوستن وسانت بانكراس وسط لندن، ووصلت تكلفته الإجمالية ما يزيد على 500 مليون جنيه استرليني، وجرى توسعته عام 2007 قبل وفاة ويلسون بوقت قصير.


يمتد المبنى الضخم على مساحة اجمالية تقدر بحوالي 1.2 مليون متر مربع، ينتصب في وسطِه برج زجاجي شاهق مكوّن من 14 طبقة، خمسة منها تحت الأرض، يحتضن بين جدرانه أعداد هائلة من الكتب تقدر مساحة الرفوف التي تشغلها ما يقارب 322 كم، وقد تأثرت الهندسة المعمارية للمبنى بعدةِ مصادر تواءم بين التاريخ والعصرنة، واستوحت من مزيج يجمع بين الطراز المعماري الذي كان سائدا في العصر الفيكتوري، ويميز الأبنية التي تحيط به من ناحية، وبين تصاميم وهندسات تحاكي جمالية واتقان نظيراتها في جامعة كامبريدج العريقة من ناحية أخرى، ويبدو ذلك جلياً للزائر في طريقة بناء شرفات متعددة الطبقات وأسلوب التفاعل بين عناصر السقف المائل والتصعيد التدريجي للمدخل وشكل المصابيح المعلقة التي صممها صديق ويلسون المهندس الفنلندي جوها ليفيسكا.  
ويضم المبنى مرافق وأروقة متعددة توفر للمجتمعات الطلابية والأكاديمية ولأي شخص مشترك في المكتبة بيئة مثالية للدراسة، وتقدم خدمات بحثية قيمة، تتوزع على 11 غرفة للقراءة مجهزة بأفضل وأحدث التقنيات ووسائل الراحة والتكييف، ومزودة بشبكة إنترنت مجانية وبطاقة استيعابية تصل لـ  1200 قارئ في ذات الوقت، وبداخله ثلاث متاحف وصالات عرض غنية بالمواد التاريخية والتحف الفنية، إلى جانب متجرين لبيع الكتب والهدايا والمقتنيات الخاصة بالإرث الثقافي للمكتبة، وهناك مطعم وعدد من المقاهي داخل وخارج المبنى.


والمكتبة هيئة عامة تشرف عليها وزارة الشؤون الرقمية والثقافة والإعلام والرياضة وتستلّم بوصفها مكتبة إيداع قانوني نسخاً عن جميع العناوين والكتب الصادرة في المملكة المتحدة وايرلندا، تصل لـ 3 مليون عنصر وعنوان جديد سنوياً.
جدير بالذكر أن محتويات المكتبة تشتمل على اختصاصات ومجالات علمية متنوعة، وفيها قسم خاص للدراسات الآسيوية والافريقية غنية بالكتب والمراجع باللغة العربية في شتى العلوم الاجتماعية والأدبية والسياسية وحتى الدينية، كما تحتوي متاحفها على نصوص لعلماء مسلمين اشتهروا في علم الطب ونظريات الهندسة والفلك والرياضيات، وثمة نسخ قرائية فريدة تعود لحقب اسلامية قديمة منذ بدايات انتشار الإسلام مروراً بعصر الخلافة وصولاً إلى الدولة العثمانية، الأمر الذي يوفر فرصة استثنائية للزوار من خلفيات عربية وإسلامية لقراءتها والاطلاع عليها، ربما كثير منها لا يتوفر في بلدانهم الأصلية.


وختاماً، لا شك في أن القراءة تلعب دوراً جوهرياً في تقدم المجتمعات وتطورها، باعتبارها مفتاح المعرفة ونواة تشكيل الوعي الفردي والجمعي، ولكونها نافذة تساهم في التعرف على ثقافات الشعوب ونتاجها الحضاري، كما تتيح المجال أمام دراسة تجاربهم والانتفاع بإنجازاتهم، فكثيرة هي الامثلة والتجارب في هذا النطاق، حيث وجدت عديد الحكومات حلولا جذرية لأزمات اجتماعية ونزاعات أهلية ومشاكل اقتصادية أرهقت كاهل مجتمعاتها على مدار عقود وسنوات طويلة، كالتخلف والفقر والطائفية والعرقية والأمية، فقط حين وضعت نصب أعينها وعلى سلم أولوياتها هدفا ساميا وغاية قصوى مفادها الاهتمام بالتعليم وتحسين جودته ونشره على نطاق واسع بين السكان عبر تشييد المدارس والمباني الجامعية وافتتاح المكتبات، وخلق ظروف مثالية للعاملين في قطاع التعليم ورفع أجورهم وزيادة الإنفاق على البحوث العلمية، أثمرت تلك السياسات في ما بعد نهضة وتطور ورفاهية نقلتها إلى مصاف الدول المتقدمة والمتحضرة، ولعل من أبرز التجارب على سبيل المثال لا الحصر التجربة الماليزية والفنلندية.
 

السابق حملة مقاطعة BDS ترحب بقرار ماليزيا الذي يفرض حظراً على السفن الإسرائيلية
التالي منع إعلان لمستحضرات تجميل في بريطانيا بسبب محتواه "غير المسؤول"