عرب لندن

ينتمي الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704م) إلى رواد التيار العلمي التجريبي في عصر التنوير، ممن أسهموا في وضع أسس النهضة العلمية التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة. إنه أحد الثلاثة الذين اعتبرهم الرئيس الأميركي الثالث؛ توماس جيفرسون، "أعظم ثلاثة رجال عاشوا على الإطلاق دون استثناء، فقد وضعوا الأساس لتلك البنى الفوقية التي نشأت عليها العلوم الفيزيائية والأخلاقية"، وهم بيكون ولوك وإسحق نيوتن.

ولجون مسار علمي مثير للغاية، حسب الكاتب والصحافي محمود عبدالهادي، فقد درس العلوم الدينية، لكنه لم يلتحق بسلك رجال الدين، الذي كان له شأن كبير وسطوة على مر العصور السابقة لعصر النهضة، بل مارس التجريب العلمي، قبل أن يدرس الطب في جامعة أكسفورد، ليتحول بعده إلى الفلسفة، ثم تولى عدداً من المناصب الحكومية، وكان طبيباً خاصاً لعائلة اللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر الملكي في عهد الملك جيمس الثاني.

وكان لعلاقة لوك باللورد آشلي دور كبير في نظرياته السياسية الليبرالية، حتى إنه هاجر إلى هولندا عام 1683م بسبب ملاحقة الشرطة له على خلفيتها، وعاد إلى إنجلترا عندما قامت الثورة الإنجليزية على أيدي حزب الأحرار البريطاني (1688-1689م)، متأثرة بأفكاره السياسية، وتأسست على إثرها الملكية الدستورية في بريطانيا.

يعتبر لوك مؤسس الفكر الليبرالي الذي يقوم على الديمقراطية والحرية الفردية والمساواة الاجتماعية، ويطالب أصحابه بحرية التعبير والصحافة والحرية الدينية والحقوق المدنية وغيرها من المبادئ الليبرالية الشائعة. وكان لوك يرى أن للفرد الحق في الحياة والحرية والملكية الخاصة، وأنه يتوجب على أي حكومة ألا تتعدى على شيء من هذه الحقوق الطبيعية للفرد. كما كان يرى أن الوظيفة العليا للدولة هي حماية الثروة والحرية، وأنه يجب على الشعب تغيير الحكومة أو تبديلها، في حالة عدم حفظها لحقوق الشعب وحريته. وكما أثرت هذه الأفكار في الثورة الإنجليزية، فقد أثرت كثيرا في الثورة الأميركية، وساهمت في زيادة الوعي السياسي لدى الأميركيين، الذين اعتنقوا آراءه وعملوا على تنفيذها.

ومع ذلك، فقد كان جون لوك متسامحا ومتصالحا، وليس ثوريا شموليا، حريصا على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزي، مع الاستفادة من نتائج الثورة، بالجمع بين النظام الملكي والنظام البرلماني بصورة متوازنة، مع التوازن بين الطبقتين الأرستقراطية والبورجوازية في المجتمع، في مواجهة الحماس الزائد الملازم لصعود أي طبقة جديدة، والذي يصل عادة إلى حد التهوّر وإشاعة الفوضى في الدولة والمجتمع.

وهناك أدلة كثيرة على شمولية الرؤية عند لوك، ولعل من بينها كونه ألّف كتابا بعنوان "الأخلاق بشكل عام"، ولم يكن بهدف وضع نظرية أخلاقية محددة، ولكن ما ذكره في هذا الكتاب، وفي غيره من المقالات والمؤلفات، يشكّل في مجموعه ما يعتبر نظرية شبه متكاملة في علم الأخلاق. فقد كانت الأخلاق ذات أهمية مركزية بالنسبة إلى لوك، فهي سمة مركزية للحياة الفكرية والعملية للإنسان، وهي العلم الصحيح، وعمل الجنس البشري بشكل عام. وقد كان لوك مهتما بإرساء أسس التفكير الأخلاقي.

يرى جون لوك أن الالتزام الأخلاقي يقوم بشكل عام على مجموعة القواعد الأخلاقية المبنية على قوانين إلهية مطلقة، فالقانون الأخلاقي هو مجموعة قواعد إلزامية، تجسّد إرادة سلطة أعلى، وهي قواعد إلزامية بسبب هيكل السلطة العليا الذي نشأت منه. مجموعة القواعد الأخلاقية التي يستنتجها العقل وحده تعكس الطبيعة البشرية. وهو يرى أيضا أن الله يقيم العدل في شكل عقوبات أحيانا كوسيلة لضمان النظام الاجتماعي والسلام؛ فالعقوبات تضمن تحقيق الصالح الاجتماعي، فعدل الله ليس إلا فرعًا من صلاحه، والذي قد يتسم بالقسوة في كبح جماح الأجزاء غير النظامية والمدمرة.

إن الله، بحسب جون لوك، يقيم العدل في شكل عقوبات أحيانا كوسيلة لضمان النظام الاجتماعي والسلام؛ فالعقوبات تضمن تحقيق الصالح الاجتماعي، فعدل الله ليس إلا فرعًا من صلاحه، والذي قد يتسم بالقسوة في كبح جماح الأجزاء غير النظامية والمدمرة. وهكذا، فإن القانون الأخلاقي عند لوك، بما يصاحبه من مكافآت وعقوبات، وسيلة لضمان الطاعة، وأن الله وضع عقوبات واضحة وصريحة، للتأكد من أن المسار الفاضل سيكون دائمًا الخيار الأكثر جاذبية، فالفضيلة لها مذاق وفاعلية أخرى لإقناع الناس بأنهم إذا عاشوا حياة جيدة في الدنيا، فسيكونون سعداء في الآخرة.

إن العقل، عند لوك، يجب أن يستنتج أن العالم مخلوق بإرادة إلهية خارقة، يمكنها أن تجلبنا إلى الوجود، أو تحافظ علينا، أو تأخذنا بعيدًا، أو تمنحنا فرحًا عظيمًا أو تجعلنا نشعر بألم شديد. وهكذا يقودنا العقل إلى معرفة المشرّع، وهو السلطة الإلهية. ويمكن للبشر أن يستنتجوا أنهم ملزمون بتقديم التسبيح والشرف والمجد لله. وأن البشر قادرون على تحديد واجباتهم الأخلاقية وتنظيم سلوكهم وفقًا لذلك.

فبالإضافة إلى كونه عالما تجريبيا وطبيبا وسياسيا وفيلسوفا ورائدا مؤسسا للفكر الليبرالي، فهو صاحب نظرية متكاملة في الأخلاق، كان لها تأثيرها الكبير في القرنين 17 و18م، ولكنها، بفعل عوامل عديدة، لم تستطع الصمود بعد ذلك في وجه التيارات الإلحادية التي انقلبت، جملة وتفصيلاً، على الدين والأخلاق في القرون التالية.

السابق الجالية العربية والمسلمة في بريطانيا وفرص التأثير
التالي مونديال قطر... سقوط الرجل الأبيض وإعلامه!