تقف أوروبا على أعتاب انتخابات مصيرية، حيث يتوجه مواطنو 21 دولة من دول الاتحاد الأوروبى إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم وانتخاب ممثليهم فى البرلمان الأوروبى، للفترة من 2019 إلى 2024، وذلك بعد انتهاء 7 دول من التصويت على مدار الأيام الثلاثة الماضية.

ولا يتم إعلان نتائج الانتخابات في أي دولة من دول الاتحاد إلا بعد الانتهاء من التصويت في كل الدول مساء اليوم.

وتعد هذه الانتخابات هي التاسعة من نوعها في تاريخ البرلمان الأوروبي، وسيتم انتخاب 751 نائبا خلال عملية الاقتراع من مختلف دول القارة الأوروبية، حيث يتم توزيع المقاعد وفقا لعدد السكان.

وتحظى ألمانيا بأكبر عدد من مقاعد البرلمان الأوروبى بـ 96 عضوا، تليها فرنسا ويمثلها 74 عضوا ثم إيطاليا وبريطانيا ولكل منهما 73 عضوا وإسبانيا 54 عضوا، أما أقل الدول الأوروبىة من حيث عدد الأعضاء فهى قبرص ومالطا ولوكسمبورج ولكل دولة منها 6 أعضاء فقط.

ويولي المراقبون أهمية ملحوظة لهذه الانتخابات التشريعية الأوروبية، حيث يرون أنها ستسهم بدرجة كبيرة في رسم ملامح السياسات الأوروبية خلال الخمس سنوات القادمة. فالبرلمان الأوروبي مؤسسة منتخبة بطريقة مباشرة ويمثل نحو 500 مليون مواطن أوروبي، ويشكل مع مجلس الاتحاد الأوروبي أعلى هيئة تشريعية في هيكل التكتل.

ويتبنى البرلمان مع المجلس الأوروبي، تقريباً جميع القوانين الأوروبية، وكذلك الميزانية السنوية التي تموّل سياسات الاتحاد. كما يجب عليه منح موافقته على أي اتفاق تجاري، ومراقبة المفاوضات التي تجريها المفوضية الأوروبية. كما يقوم البرلمان بالاشراف على أعمال مجلس الاتحاد الأوروبي، ويصدّق على ترشيح المفوّضين ويمتلك حقّ سحب الثقة من مجلس الاتحاد.

وتوسّعت صلاحيات البرلمان الأوروبي منذ معاهدة بروكسل في 22 يوليو 1975، كما مُنح مزيداً من الصلاحيات التشريعية في المجال القانوني والقضائي منذ اتفاقية ماستريخت عام 1991

وترسّخ دور البرلمان الأوروبي كسلطةً تشريعية عليا بموجب اتفاقية أمستردام عام 1997، والتي شملت من بين بنودها الأساسية قضايا حقوق الإنسان والتعاون الأوروبي حول الحدود والتأشيرات واللجوء والهجرة والحقوق المدنية، والتعاون العابر للحدود الوطنية في مجالات البيئة والعمل. ثمّ جاء بعد ذلك التعاون الأمني والعدلي والزراعي، وغيرها من القضايا التي أصبح للبرلمان الأوروبي دور حاسم فيها.

كما يلعب البرلمان الأوروبي دورا بارزا في اختيار المرشحين للمناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، حيث تختار الأحزاب الأوروبیة المرشحین الرئیسیین لتولي منصب رئیس المفوضیة الاوروبیة، الذي يشغله حالياً جان كلود يونكر، ومن المقرر أن يصوت البرلمان على المرشح الجديد لهذا المنصب في يوليو المقبل وفقا للخيارات التي ستتمخض عن نتائج الاقتراع الحالي. ولا يمكن لأي شخص أن يصبح رئيساً للمفوضية الأوروبية دون الحصول على دعم 376 نائباً على الأقل من أصل 751 نائباً أوروبياً.

وتتوقع معظم استطلاعات الرأي زيادة حصة الأحزاب الشعبوية والقومية في البرلمان الأوروبي، انطلاقا من تصاعد شعبيتها مؤخرا في الانتخابات الوطنية للدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي.

وترجح الاستطلاعات حصول هذه الأحزاب، المشككة بأوروبا، على 20% من إجمالي المقاعد دون حصولها على الغالبية البرلمانية، متوقعة حصول كل من حزب الرابطة الإيطالي، بزعامة وزير الداخلية ماتيو سالفيني، وحزب التجمع الوطني الفرنسي، بزعامة مارين لوبن، على أعداد كبيرة من المقاعد داخل البرلمان الأوروبي الجديد.

ورغم تزايد التوقعات بصعود التيارات الشعبوية، أظهرت النتائج الأولية لتصويت /الخميس/ الماضي في هولندا، تقدم حزب العمال على الأحزاب الليبرالية والشعبوية، والتي كان من المتوقع إحرازها نتائج متقدمة. وفي أيرلندا، أشارت استطلاعات الرأي أيضاً - مساء /الجمعة/ - إلى تقدم حزب رئيس الوزراء، ليو فارادكار، المؤيد لأوروبا.

ويتفق المراقبون على أن انتخابات البرلمان الأوروبي هذه الدورة تكتسب أهمية ملحوظة عن غيرها من سابقاتها، حيث شهدت الساحة الأوروبية على مدار الخمس سنوات الماضية متغيرات ومستجدات ساهمت في تغير رؤى وتوجهات المواطن الأوروبي، لعل من أبرز تلك المتغيرات: أزمة الهجرة التي اندلعت عام 2015، حيث لجأ مئات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين إلى الدول الأوروبية، مما شكّل تحدياً كبيراً للقارة العجوز، ولدور مؤسساتها في تحمّل الأعباء، وأبرز غياب سياسات أوروبية مشتركة قادرة على التصدي لهذه القضية.

ونجحت الأحزاب الشعبوية في استخدام أزمات الهجرة واللجوء لتعزيز شعبيتها على الساحة الأوروبية، حيث اتخذت من هذه القضايا فرصة لتشديد سياساتهم الوطنية، وشن هجوم على مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي عجزت عن مواجهة هذه التحديات ووضع خطة عمل للتعامل معها، وتسببت بدورها في زيادة معاناة المواطن الأوروبي.

من ناحية أخرى أحدث استفتاء عام 2016، المؤيد للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (البريكست) تصدعا داخل التكتل، حيث عزز من اتجاهات المشككين في جدوى الوحدة الأوروبية نفسها وساهم في تصاعد التيارات المتطرفة التي ترى الاتحاد "مؤسسة بيروقراطية" تثقل كاهل الدولة الوطنية وتفقدها حريتها. ووصف كثيرون البريكست بأنه "التغير الأخطر في تاريخ الاتحاد الأوروبي والحدث الأكثر حسما"، والذي سيلقي بظلاله على انتخابات البرلمان الأوروبي الحالية.

من ناحية ثالثة، شكَل انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأميركية عام 2016 واحدا من أبرز المتغيرات التي شهدتها الساحة الأوروبية وأثرت على مسار العلاقات الأوروأطلسية. فبعد أن كانت الولايات المتحدة الحليف التقليدي لأوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدا واضحا أن ترامب يسعى لتغيير مسار هذه العلاقة، وهو ما ظهر من خلال عدة الخطوات من بينها فرضه لرسوم جمركية على عدد من السلع الأوروبية، وإعلانه انسحاب بلاده من معاهدة باريس للمناخ ومن الاتفاق النووي مع إيران، فضلا عن تصريحاته حول أن حلف الناتو ليس ضامناً وعلى الأوروبيين زيادة نسبة الموازنات العسكرية، إلى جانب غيرها من الخطوات التي ساهمت في تعميق توتر علاقة الطرفين وتزايد القلق الأوروبي من المستقبل.

وساهمت مواقف ترامب في تعزيز الخطاب القومي المتشدد داخل القارة الأوروبية، حيث إنه نجح في استغلال المواقف الأوروبية المتباينة حول عدد من القضايا، مثل الهجرة واللجوء، لتعميق الانقسامات داخل الصف الأوروبي.

وفي ضوء المشهد السابق، يبدو واضحا أن البرلمان الأوروبي القادم سيكون برلمانا مختلفا يعمل في مناخ أوروبي غير مسبوق وسيواجه تحديات جادة تهدد بقاء الاتحاد وقوة حضوره على الساحة الدولية وتحدد ملامح استمرار هذا الكيان الأوروبي خلال السنوات المقبلة.

من هنا جاءت أهمية نتائج الاستحقاق الانتخابي الحالي، حيث إنه سيحدد موازين القوى داخل البرلمان ويعكس شكل التكتلات التي ستهيمن عليه خلال السنوات المقبلة. ورغم تزايد التوقعات بتصاعد الأحزاب الشعبوية إلا أن التقديرات تشير إلى استمرار هيمنة تيار الوسط المعتدل على البرلمان مع فقده لعدد من المقاعد لصالح التيار الشعبوي.

السابق تحذيرات من صعود اليمين في أوروبا
التالي النمسا قلقة من العنف في أوروبا