محمد أمين
رئيس التحرير
صحيح أنه عام الجائحة بامتياز، لكنه من جهة أخرى عام الإبداع العربي في مواجهتها، والانتفاض جنبا إلى جنب مع المجتمع البريطاني لتسطير أروع صور النضال والتضحية في سبيل الحفاظ على الأرواح، وترميم الجراح النفسية والاجتماعية التي خلفها الوباء.
فقد سقط في المملكة المتحدة شهداء عرب من أمهر أطباء الخدمات الصحية “NHS” من الجالية، قدم الراحلون أرواحهم في المعركة ضد وباء كورونا، لم يتردد "الفدائيون العرب" في تلبية نداء الإنسانية والالتحام بمشافيهم وعياداتهم، فهذا الوباء لا يفرق بين إنسان وآخر، وهم كبريطانيين من أصول عربية لبوا كغيرهم من الأطباء نداء الواجب، بل تقدموا الصفوف، وكانوا حديث الصحافة الإنجليزية على مدار شهور، ولعل هذه الأمثلة في التضحية تقدم ما لا يمكن أن تقدمه مئات المحاضرات والمقالات التي تحث على الاندماج وتقديم صورة مشرقة عن الجالية ودور العرب في المجتمع البريطاني، فتلك نضالات مشرقة للأقلية العربية والمسلمة، والتي فهمت معنى الاندماج بشكل صحيح: هو أنك إنسان تخدم أخاك الانسان في أي بلد حللت به، وأنك كمواطن بريطاني تلبي نداء بلدك كأي مواطن آخر، وأنك كعربي تحركك مبادئك وقيمك العربية التي تحث على النبل والعطاء والتضحية.
عاهدت الله أن تكون أولى مقالاتي في العدد الأول المطبوع بعد الجائحة وفاء لأولئك الشهداء، النجوم الذين رحلوا عنا وهم يقاتلون في الخطوط الأولى، أطباء عرب من جنسيات وأصول مختلفة سودانية وفلسطينية ومصرية وعراقية ومغاربية، فأول أطباء توفوا وهم في الصفوف الأمامية في معالجة المرضى والتصدي للوباء كانوا عربا ومسلمين من أبناء الجالية.
الأول د- عادل الطيار من أصول سودانية والذي توفي عن 63 عاما، في 25 آذار/ مارس / 2020 في مستشفى ويست ميدلسكس الجامعي في إيزلورث، لندن.
الراحل الطيارهو طبيب بريطاني، قدم إلى المملكة المتحدة مهاجرا من السودان، كان الطيار متخصصا في زراعة الأعضاء، وقضى أيامه الأخيرة في العمل في قسم الحوادث والطوارئ.
الراحل الثاني في تلك الكوكبة كان الدكتور حبيب الزيدي بريطاني من أصول عراقية،والذي عمل كطبيب عام في "ليه أون سي" لأكثر من 47 عاما، وضحى بحياته وهو يكافح فيروس كورونا في الصفوف الأمامية. توفي الدكتور الزيدي عن 76 سنة، في العناية المركزة في مستشفى ساوثيند- إسكس.
الراحل الثالث هو الدكتور أمجد الحوراني، 55 سنة، من أصول سودانية، استشاري متخصص في قسم الأذن والأنف والحنجرة في مستشفى كوينز في بيرتون، ديربيشير.
توفي الحوراني في مستوصف ليستر الملكي، في 29 آذار/ مارس.2020 /
الرابع وليس الأخير هو البروفيسور المصري سامي شوشة (79 عاما) والذي كان استشاريا في علم التشريح المرضي، وباحثا في مستشفى تشارينغ كروس وكلية إمبريال كوليدج للطب في لندن.
ذكرت أسماء هؤلاء الأطباء الأربعة لأنهم من أوائل من توفي، لكن قائمة الأطباء العرب الراحلين طويلة، وكلهم قامات كبيرة، وبعضهم متقاعد لكنه أصر على العودة للعمل عندما طلب قطاع الصحة الحكومي متطوعين.
ونحن نستذكر أولئك الأبطال، فإن في القلب غصة أن هذه الكوكبة من العلماء والطاقات العربية ضاقت بها بلادنا العربية، ولم يجدوا الفرصة في بلدانهم الأصلية لخدمة أهليهم فاحتضنتهم بريطانيا وأمريكا وباقي الدول الأوروبية.
إن واحدة من الحقائق التي اكتشفناها أو كشفها لنا كورنا المستجد هي حجم الطاقات والأطباء العرب المنتشرين في بريطانيا وعموم القارة الأوروبية وأمريكا، فلا تكاد تشاهد قناة عربية أو أجنبية إلا وترى طبيبا أو طبيبة عرب يتحدثون من داخل مشفى أوروبي، أو يترأسون فريقا علميا لتطوير لقاح، لتكتشف كم جرّف الفساد والاستبداد في عالمنا العربي من طاقات، وكم طرد اليأس وانعدام الأمل من عقولنا التي دُفعت دفعا للهجرة، وكم خسر العالم العربي بهجرة تلك الكفاءات ونزيف العقول من مختلف المجالات.
حتى لا نطيل في المقال، لعل معرفة أن وزير الدولة للأعمال في بريطانيا المسؤول عن توزيع لقاح كورونا هو من أصول عراقية واسمه ناظم حارث الزهاوي،سياسي بريطاني مولود في العراق لأسرة كردية ، وهو الرجل رقم 1 الآن في الاشراف على توزيع اللقاحات في المملكة المتحدة ،أما في الولايات المتحدة فإن عالما من أصول مغربية ترأس الفريق العلمي المكلف بتطوير لقاح كورونا وهو منصف السلاوي الذي ألف أكثر من 100 ورقة علمية وعرض تقديمي، وكان السلاوي بحسب نشطاء كتبوا عن سيرته قد عاد للمغرب حاملا دكتوراه وهو متحمس لخدمته، فتوجه نحو كلية الطب بالرباط ليقترح عليهم تقديم محاضرة في اختصاصه بشكل تطوعي، لكن الرجل لقي تجاهلا تاما، فكرّر العرض على كلية الطب بالبيضاء ولم يتلق جوابا، ليقرر العمل في المهجر
طالما أن العلماء لا قيمة لهم في العالم العربي، فستستمر هجرة الأدمغة، وطالما أن عسكريا أو عنصرا أمنيا صغيرا يتحكم بمصير جامعات كبرى يُعيّن ويُقيل، فإن هروب العقول العربية سيتواصل، ومعه سيستمر الجهل والتراجع، وانعدام التنمية، لكن يبقى الأمل دوما يحذونا بأن تنعم دولنا العربية يوما ما بالحرية، وقتها.. سيتنفس الجميع الصعداء.
بمناسبة مرور عام كامل على الجائحة، كل عام وأنتم بصحة وسلامة وأمان، كل عام وقد انتهت كل الأوبئة، وباء كورونا ووباء الاستبداد والفساد، نحتاج لقاحات لكل هذه الأوبئة وليس فقط لكورونا المستجد.