جاد محمد
بعدما كان مزارا للملايين من السياح٬ تحول الحي الصيني بلندن إلى مدينة أشباح تفتقد رواجها المعهود٬ وقد خيم عليها شبح فيروس كورونا٬ وكلما زاد تفشي الوباء عالميا٬ كلما اشتدت وطأة الأزمة في الحي الواقع في المركز، والذي يعد من أكثر الأماكن السياحية جذبا للزوار لما له من قدرة على تلخيص الثقافة الصينية في شوارع لندن.
وفي الأيام العادية فإن بوابة الحي المنقوشة على الطراز الصيني٬ والتي تذكرك بالمعابد الصينية العتيقة٬ تحظى باهتمام كبير من طرف الأجانب٬ الذين يقفون في طوابير طويلة لالتقاط صور أمامها٬ أما الآن فقد استوحشت هذه البوابة وافتقدت تلك الحركة الدؤوبة التي كانت تدب أمامها٬ وباتت تنشد زائرا يلتقط صورة معها،أو يخترق حاجز الخوف، ويكسر الصمت، ويغوص في أزقة الحي الصيني.
ويدفع الحي الصيني ثمن الخوف٬ المتزايد من تفشي وباء كورونا٬ خصوصا وأن مصدر هذا الوباء كان محافظة يوهان الصينية٬ ما رسخ في أذهان الناس٬ أن كل شيء له علاقة بالصين هو مصدر شك وريبة٬ وهو ما انطبق على تعاملهم مع الحي الصيني٬ رغم كل التطمينات التي قدمتها المصالح الطبية البريطانية والتي تقول بأن الحي لم يكن أبدا مصدرا لأي شبهة٬ وبأن حالات الإصابة كان مصدرها أشخاص قادمون من خارج المملكة المتحدة.
خسائر فادحة
بدأت معاناة أصحاب المحلات التجارية في الحي الصيني مباشرة بعد الإعلان عن اكتشاف فيروس كورنا في الصين٬ في البداية كان أملهم أن تنجح السلطات الصينية في الحد من انتشار الفيروس٬ حتى لا يتحول إلى كابوس يثير الذعر في العالم٬ لكن آمالهم٬ خابت وظهرت أولى النتائج السلبية لظهور الوباء مع احتفالات السنة الصينية التي تعتبر ذروة الموسم في الحي الصيني٬ والتي تنطلق مع منتصف شهر يناير وتستمر لمدة شهر كامل٬ وفيها يشهد الحي أجواء احتفالية وطقوسا تعكس الثقافة الصينية.
إلا أن هذه السنة كانت مغايرة تماما٬حيث لم تفلح أعلام الزينة٬ ولا محاولات بث أجواء البهجة في الحي الصيني٬ في كسر طوق الخوف الذي تم لفه حول الحي٬ ما اضطر أصحاب المحلات إلى تقليص فترة الاحتفالات.
وتشير الأرقام إلى أنه في الأسابيع الأولى من شهر يناير تم إلغاء 50 بالمائة من حجوزات المطاعم٬ والتي كانت تحضر نفسها لمداخيل مرتفعة بمناسبة السنة الصينية٬وحاولت المطاعم أن تقدم الكثير من العروض المغرية والتخفيضات في الأسعار لكن دون جدوى.
وأعلنت بعض المطاعم في الحي أن خسائرها في عطل نهاية الأسبوع تقدر بحوالي 15 ألف جنيه إسترليني٬ أما في الأيام العادية٬ فأغلب المطاعم باتت تعاني حالة من الركود غير المسبوق٬ وتدريجيا بدأ أصحاب المطاعم يتقبلون الأمر على مضض٬ بعد أن اقتنعوا أن الفيروس سيكون ضيفا ثقيلا وربما تستمر آثاره لأشهر قادمة وليس لأسابيع، مادفع بعضها لإغلاق أبوابه تماما.
وبلغت خسائر المطاعم في ظرف شهر أكثر من نصف مليون جنيه إسترليني٬ فضلا عن المتاجر التي تبيع الأعشاب والمنتجات السياحية التي لها علاقة بالصين والتي تعاني هي الأخرى من توقف شبه تام لنشاطها٬ وكلما تقدم الوقت كلما زاد الضغط على أصحاب المحلات.
أهل الحي يعانون
إذا كان أصحاب المحلات يعانون من تراجع مداخيلهم فإن العاملين في الحي الصيني٬ يعانون الأمرين على الصعيد المادي وحتى النفسي٬ فمن جهة باتوا يخشون من فقدان مصدر رزقهم٬ وهم يشاهدون أكثر من محل يتخلى عن بعض العاملين فيه بسبب تراجع النشاط التجاري.
وتحدث أكثر من عامل في الحي لعرب لندن دون الكشف عن هويته٬ عن الضغط النفسي الرهيب الذي يتعرضون له٬ وهم يودعون رفاق عملهم الذين تم فصلهم من العمل٬ وأيضا الخوف من الإصابة بفيروس كورونا٬ بل إن عاملة في مطعم في الحي الصيني كشفت أنها باتت تفرض على نفسها عزلا داخل بيتها وتحاول الابتعاد عن أبنائها وزوجها٬ وتشعر بمسؤولية ثقيلة خشية أن تكون حاملة للفيروس.
بينما تحدث آخرون٬عن نظرة الناس إليهم وكأنهم متهمون إلى أن تثبت إدانتهم٬ ومحاولات التحاشي من قبل المارة في الحي٬ رغم أن حالات الإصابة في العاصمة لندن مازالت جد محدودة.
هذا الضغط ولّد لدى بعض أصحاب المحلات رد فعل٬ حيث تحدثت تقارير إعلامية عن رفض بعض المطاعم في الحي خدمة بعض الزبائن الذين يصلون بأقنعة على وجوههم٬ رفض سببه حسب هؤلاء هو عدم الرغبة في ترسيخ فكرة أن دخول الحي الصيني يشكل خطورة على زواره.
حوادث عنصرية
رغم كل حملات التوعية التي تقوم بها السلطات البريطانية لعدم التهويل من فيروس كورونا فإن هذا لم يمنع من تسجيل العديد من حالات العنصرية في حق مواطنين آسيويين، خصوصا في القطارات.
وكتبت مييم آيي -وهي شابة آسيوية مقيمة في بريطانيا- على حسابها في تويتر ما حدث معها في القطار الذي كان مزدحما، فمع أن الكراسي عن يمينها وشمالها كانت فارغة إلا أن الركاب رفضوا الجلوس بجانبها بسبب ملامحها الآسيوية.
لا تنقلي فايروسك اللعين هنا.. عودي إلى بلدك
كما تم تسجيل حالة أخرى في القطار عندما سعلت سيدة بملامح صينية فصاح فيها شخص "لا تنقلي فيروسك اللعين إلى الناس، عودي إلى بلدك وانشري المرض".
هذه الحالات التي ما زالت فردية باتت مثيرة لقلق عدد من المؤسسات المناهضة للعنصرية، ومن بينها منظمة "تيل ماما" التي كتبت على صفحتها الرسمية في فيسبوك أن ما يحدث مع الآسيويين من ربطهم بفيروس كورونا هو أمر مستنكر، معربة عن تضامنها مع أصحاب المحلات الذين تضررت مصالحهم في الحي الصيني بسبب الخوف من الفيروس.
وجرى نفس الأمر على الصحفي البريطاني المخضرم جون سيبسون المعروف بأنه من قدماء الصحفيين في شبكة "بي بي سي" الإنجليزية، حيث كتب على حسابه في تويتر "الظاهر أن الناس يحاولون الابتعاد عن الحي الصيني خوفا من الإصابة بكورونا، يا لهم من حمقى، أنا في انتظار المساء لتناول وجبتي المفضلة في مطعمي الدائم داخل الحي".
ويبدو أن الحملة -التي يقودها عدد من المشاهير والإعلاميين البريطانيين لإعادة الحياة إلى الحي الصيني- لم تؤت ثمارها على الأقل خلال المدى القريب مع استمرار أخبار ارتفاع حالات الإصابات، في انتظار ما ستسفر عنه الأيام المقبلة.
البريطانيون قلقون
ويظهر أن خوف البريطانيين من الفيروس٬ بدأ في التزايد حيث كشف استطلاع للرأي أنجزته مؤسسة "إبسو موري"٬ أن 14 في المائة من البريطانيين أكدوا أنهم باتوا يتحاشون التعامل مع أشخاص من أصول صينية٬ بينما عبر ربع المستجوبين أنهم يتحاشون المصافحة باليد.
وعن الخوف من انشار الفيروس عن طريق وسائل النقل العمومية فيظهر أن البريطانيين مازالوا يثقون في شبكة النقل العمومي٬ حيث قال 20 في المائة فقط إنهم باتوا يتحاشون التنقل عن طريق المواصلات العمومية٬ والتي تقل أكثر من خمسة ملايين شخص يوميا في العاصمة البريطانية لندن لوحدها.
وأثر انتشار الفيروس حتى على خطط البريطانيين لعطل الصيف٬ حيث أكد ثلاثون في المائة منهم أنهم سيختارون وجهات سياحية غير تقليدية والمعروفة بأنها تكون مأهولة بالسياح في الصيف٬ بينما أكد الثلثان من المستجوبين أنهم سيبتعدون عن الدول التي ينتشر فيها الفيروس.