عرب لندن
محمد أمين
تابع أكثر من 4 مليار شخص حول العالم جنازة ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية، منهم 28 مليون بريطاني وفقا لهيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي)، شاهدوا جنازة الملكة على شاشاتها في منازلهم، مما يجعلها واحدة من أكثر الأحداث مشاهدة منذ سنوات.
الاهتمام الدولي بالحدث مفهوم، فالملكة الراحلة تعد من أقدم ملوك العالم وأطولهم مكوثا على العرش، كما أن مملكتها كانت يوما امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، غير الطبعي هو تحويل بعض نشطاء السوشيال ميديا الحدث لمعارك طاحنة، بعضهم ذهب لاستجلاب براهين على أنها كانت رأس الماسونية، والبعض الآخر غرق في معارك الترحم عليها أم لعنها، وآخر بكى حتى ابتلت لحيته كأنها جدته لأبيه أو أمه، وفريق آخر يرى أن الديمقراطية زائفة في بريطانيا، وهو يعيش في بلدان لم تمر يوما الديمقراطية من جانبها ، وربما هو نفسه متورط في التبرير لحكام قتلة!.
وفي تفسير وتشخيص المعسكرين فثمة عربي يعيش في بريطانيا ويحمل جنسيتها ويتمتع بحقوقه كاملة فيها، فر هاربا من ضيم وظلم واستبداد حكامه، هذا لا يمكن محاكمة رأيه كالآخرين، ففي حالته هو بين متجاذبين، الشعور بالامتنان للأمان والعدالة التي منحته إنجلترا إياها، بمقابل ما عاناه من قسوة في بلاده على أيد جلاديها، تعبيره عن الامتنان لبريطانيا لا يعني بطبيعة الحال قبوله بإرث استعماري بشع، استعبد شعوبا وأقام كيان احتلال عنصري لا مثيل له.
بالمقابل ثمة عربي آخر محق في موقفه التاريخي من بريطانيا واستعمارها، كما أنه مازال يعاني الويلات في العالم العربي جراء دعم بريطانيا وأمريكا والغرب عموما لأنظمة استبدادية نصبتها إنجلترا في بلداننا قبل مغادرتها، وورثتها أمريكا، وهذا محق في مشاعره كذلك مضاف إليها ذلك الانحياز المتحرر من أي قيد في دعم ومساندة دولة الاحتلال الصهيوني، كل ذلك يجعل موقفه سالبا من بريطانيا وملكتها وكل ما يرتبط بإرثها.
لكن برأيي وفي سياق محاولة بناء موقف متزن وواقعي من بريطانيا و من ملكتها الراحلة، ينبغي الانتباه والتمييز بين إرث بريطانيا الاستعماري، وجرائمها، وعلى رأسها وعد بلفور وكيان الاحتلال، وبين ديمقراطيتها الحديثة، الأول مدان ولا يمكن التنازل عن حق الاعتذار عنه والمطالبة بتعويض ضحاياه، والثاني نموذج ينبغي دراسته وانتهاج آلياته.
بريطانيا المستعمرة ارتكبت جرائم إبادة، ومارست العبودية بأبشع صورها، وسرقت ونهبت بلداننا وبلدان في أفريقيا وعبر العالم، لا يمكن أن تمحى تلك الصورة من أذهاننا، وليس مطلوبا من الضحية أن يسامح الجلاد، ولا أن يبتكر له الأعذار، ولا أن يذوب في ثقافته وينبهر بها، فكل ذلك لا يستجلب الاحترام له، لكن ينبغي تعلم الدروس والعبر مع الإصرار على التمسك بالحقوق التاريخية.
ما أود أن أخلص إليه، أنه ينبغي الفصل بين التجربة الديمقراطية الحديثة لبريطانيا وعموم الغرب، وبين ماضييه الاستعماري، فبناء الدول وتطور نظم الحكم كل تلك تجارب وخبرات إنسانية هي ملك وإرث لجميع الشعوب، خاصة التي مازالت تتلمس طريقها نحو الحرية نأخذ منه ما هو مفيد، ونبدأ من حيث انتهي إليه الآخرون، فالموقف الأيديولوجي والوطني من جرائم بريطانيا وفرنسا وأمريكا مسألة ثابتة، لا ينبغي فيها التسامح ولا النسيان، ولابد من مواصلة مطالبة تلك الدول بالاعتذار عن وعد بلفور، وعن الاستعمار، وعن العبودية، وعن كل ما فعلوه في بلداننا، في نفس الوقت ينبغي قراءة تجارب تلك الدول وشعوبها، ونضالها الطويل في انتزاع حريتها، وإرساء نظم ديمقراطية تضمن انتقالا سلسا للسلطة، وتمنع الحكام من البقاء في كراسيهم، دون رغبة شعوبهم.
ودّع البريطانيون ملكة مكثت على العرش 70عاما، مراسيم وعادات معقدة ودقيقة في تشييعها، تحكي قصة 1000 عام من الملكية، انتقلت فيها من ملكية مطلقة، إلى ملكية رمزية، فيها الملك أو الملكة فوق السياسة، هم رمز للأمة ووحدتها، لكن الحكم لحكومة منتخبة من الشعب، مشهد يحكي قصة نهاية امبراطورية حكمت العالم، وبقي منها اليوم فقط رموز وتقاليد وصولجان، لكنها نجحت في الفصل بين السلطات، وتكريس العدالة، وإرساء دستور غير مكتوب لكن مطبق بأبهى صور ، وأمتن المعايير، هذا ما ينبغي أن نركز عليه في العالم العربي، ونحاول الإفادة من تلك التجربة الديمقراطية، دون نسيان الإرث الاستعماري.