عرب لندن –كتب جاد محمد
العلاقة بين المثقف والسلطة من أكثر العلاقات الجدلية والتباسا عبر التاريخ، فلا عجب أن تشغل بال عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين لرسم الحدود بين الطرفين، فنجد ابن المقفع عرف المثقف بكونه الشخص القادر على إصلاح حال الحاكم والرعية معا، أما ابن خلدون فلم يعر اهتماما كبيرا للعلاقة التي يجب أن تكون بين المثقف والحاكم بقدر ما انصب اهتمامه على المسافة التي تربطه أو تبعده عن السلطان ومحيطه وعلى أساسها يتحدد دوره، ويبقى التمييز الأكثر تداولا لأدوار المثقف هو ما ذهب إليه الفيلسوف الإيطالي غرامشي، وثنائيته الشهيرة بين المثقف العضوي المنخرط مع أفراد المجتمع في همومه والقادر على التأطير والتعبئة وبين المثقف التقليدي الذي يرى في نفسه كيانا منفصلا عن جماعته وهو ما يسميه البعض العيش في البرج العاجي بعيدا عن الهموم الحقيقية للناس.
هذه المقدمة كان لابد منها من أجل إظهار حجم السجال الفكري الممتد لقرون حول العلاقة المعقدة والجدلية بين سلطتين رمزيتين "الثقافة والدولة".
ولعل الربيع الربيع لم يزد هذه العلاقة إلا غموضا والتباسا، بعد حصول اشتباك غير مسبوق بين النخبة والسلطة، هذا الاشتباك كان إما على شكل تحالف بين المثقفين والأنظمة الحاكمة، أو مواجهة بين الطرفين، ويمكن إدراج المفكر السوري برهان غليون في الخانة الثانية، فأستاذ العلوم السياسية في جامعة السوربون الفرنسية لا يختلف اثنان على تصنيفه ضمن المثقفين العضويين العرب الذين وفروا الإطار العلمي والتنظيري للثورات العربية، بكتبه عن الصدام بين الدولة والأمة وعن الطائفية، والبيان من أجل الديمقراطية، والعلاقة بين الدين والدولة، كلها مؤلفات تعرف عليها كاتب هذه الأسطر قبل الثورات العربية وكانت حاضرة في القاموس المفاهيمي للشباب في مختلف ميادين الثورات العربية.
فلا مراء إذن من القول إن برهان غليون كان من الرعيل الأول الذي وفر إطارا علميا لبناء الدولة الديمقراطية العربية وهي أس كل ثوارت الربيع العربي، ومنحه هذا الاشتباك مع قضايا الأمة فرصة تاريخية لا تمنح للكثير من المثقفين،وهي فرصة إخضاع إنتاجه العلمي في التنظير للانتقال الديمقراطي وبناء الدولة الأمة والفرد المواطن، للاختبار على أرض الواقع، بعد اختياره لرئاسة المجلس الوطني السوري، ليجمع بين الثورة والسياسة والثقافة في توليفة من النادر أن تتحقق لأي مفكر.
هذه التجربة لم تطل كثيرا، باستقالة غليون سنة 2012 من المجلس الوطني السوري، بسبب كثرة الخلافات وتشتت الرأي وضياع البوصلة الثورية، استقال غليون من الدور السياسي ليعود لموقعه الأصيل والأصلي كمثقف عايش الكثير من تفاصيل الثورة، ومرارة العثرات وحسرة الفشل، كل هذه المشاعر المشحونة والقاسية على رجل قضى أربعة عقود في النضال لتحرر الشعوب العربية، فما كان من ملجأ سوى الكتابة، فكان كتاب "أعطاب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل" بصفحاته التي تفوق 500 صفحة، ولغته الصريحة المباشرة، فالمرحلة ما عادت تحتمل التلميح أو الكلام المبهم.
وتذهب الكثير من القراءات لهذا الكتاب، إلى أنه سيرة ذاتية سياسية، وأذهب إلى القول إن هذا الكتاب يمكن إدراجه ضمن أدبيات الثورة، ويجوز أن نسميه درسا في الثورة، مدعوما بتجربة ميدانية ما يجعل منه عملا علميا مكتمل الأركان، سيهتدي به الباحثون في العلوم السياسية والاجتماعية خلال السنوات القادمة، خصوصا وأنه يحاول الإجابة على سؤال حارق، لماذا فشل الربيع العربي وفي القلب منها الثورة السورية؟، أكثر من اهتمامه بسؤال لماذا أفشلت الثورة وهو سؤال يخفي في طياته الكثير من إلقاء اللوم على الخارج بعيدا عن العوامل الذاتية، ولهذا حرص برهان غليون على تضمين الذات في عنوان كتابه.
وخلال حضور عرب لندن لتقديم غليون للكتاب في العاصمة البريطانية لندن، لم تكن نبرة الحسرة خافية عند حديث برهان غليون، عن أعطاب المحيطين بالثورة السورية، من غياب للمشروع الوطني والرؤية السياسية الواضحة والثقافة السياسية القادرة على التفاوض والحوار وتغليب المصلحة الخاصة على المصالح العامة والتهافت على المناصب والمصالح حتى قبل أن تكمل الثورة مسارها ويشتد عودها.
ويظهر من خلال مقدمة الكتاب أنه موجه للشباب السوري المؤمن بالثورة الحالم بالتحرر، ولهذا يقول إنه يفي "بدين اتجاه الناشطين الشباب الذين وضعوا ثقتهم بي ثقتهم بي ودفعوني لأقود المجلس الوطني الذي كانوا وراء تأسيسه، والثاني تجاه جامعتي التي منحتني اجازة مدفوعة لعام كامل، لأتفرغ لنشاطي في المعارضة"، ليجعل من هذا الكتاب رسالة لأهل الثورة الحقيقيين ووقودها أي الشباب، وأيضا للمثقفين الذين هالهم ما حدث خلال أيام الربيع العربي لحدود أعدموا الوسيلة العلمية القادرة على تفسير ما حدث.
ويعترف برهان غليون أنه يريد من خلال كتابه تقديم الحساب مع "لحظة استثنائية من تاريخ سياسي بلغت فيها الفاعلية التاريخية حدها الأقصى، حالة فوق الزمن وخارجه، قضى فيها أشخاص بسطاء وتقريبا من دون تاريخ، في معركة شرف حقيقية، فيما سقطت فيها وجوه لم تستطع ان تغادر عتبة التاريخ الماضي، وبقيت تتناحر على مواقع سلطة وهمية بدل المخاطرة وتقاسم المسؤولية"، ويرى غليون أن كتابه أيضا يقدم صورا واضحة عن نفسيات الإنسان خلال مراحل الثورة وعن المتسلقين والوصوليين أو ما يسميه هو "بالضعف الانساني، وأحيانا الغدر والخيانة، التي عملت في الظهر، وما كان من الممكن أن لا يصيبني منها قروح لم تندمل بعد وربما لوقت طويل".
لا يركز برهان غليون على الثورة بحد ذاتها كفعل سياسي وإنساني ولا عن عن الحتمية التاريخية في انتفاضة الشعوب وليس غرضه كما يقول هو "تفسير اندلاع الثورة السورية، ولا نفي أطروحات القوى التي نظرت إليها كتمرد أو ثورة إسلامية أو طائفية او علمانية، أو الإجابة عما إذا كانت انتفاضة أم ثورة أم تمردا أم فورة شعبية، ولا إلى تفسير الحرب الوحشية التي ووجهت بها، وأسبابها. إنه يهدف بالدرجة الأولى إلى تحليل ممارستنا خلالها، ومشاهدة أنفسنا، أفرادا واحزابا وتكتلات وشعبا، في مرآتها، للتعرف على الأسباب التي رفعتنا إلى مستوى السمو الأخلاقي المذهل في بداية الثورة، وتلك التي أرجعتنا إلى عصر التوحش والبدائية في نهاياتها التي لم تنته ولا تريد أن تنتهي. أي على السوريين، بوصفهم: ذاتاً فاعلة جمعية"، بل يخصص كتابه وانطلاقا من تجربته الشخصية للفرد السوري، المعطوب الذات بسبب عقود من الخوف والقمع وغسيل الدماغ، إن الكتاب يتحدث عن "النحن" السورية الجامعة التي لم تحقق إلى الأن " نحن السوريون، نشطاء ومعارضون وفصائل مقاتلة، أداؤنا فيها وفهمنا لإشكالاتها وتعاملنا مع رهاناتها".
وعندما ينتهي برهان غليون من النقد البناء البعيد عن جلد الذات الذي يعتبر فعلا هداما معطلا للفكر يخصص فقرة مفصلة في مؤلفه للحديث عن صناعة النخبة، ويقر بأن الثورات العربية أظهرت ضعف النخبة العربية وإن كانت حاملة للنوايا الحسنة، ولهذا وجب العمل على إعادة صناعتها من خلال ثقافة سياسية جديدة تقوم على حسن تدبير المفاوضات والمساومات وتقبل كل الآراء، بعيدا عن النعرات الطائفية أو العرقية، مع التركيز على بناء ذات سورية ولاءها للوطن، وهذا لن يتحقق دون التخلص من النخبة الرثة التي ساندت الأنظمة ونظرت للقمع.
إن كتاب "عطب الذات" هو مقالة جامعة لكل الأخطاء التي يجب تجنبها في أي معسكر ثوري، ويقدم خريطة طريق لبناء نخبة ثورية قادرة على صياغة مشروع وطني، قد تكون هذه الخطة طويلة الأمد لكنها ناجعة لكونها بنيت على أسس علمية وتجربة ميدانية مريرة، وقبل هذا كله هي محاولة من برهان غليون للتحفف من عبء الإحساس بالذنب وإن كان يلجأ للاعتراف الضمني بالفشل والخطأ دون الانتقال للتصريح بعثراته وسوء تقديره ربما خلال مرحلة الثورة الأولى عندما تولى رئاسة المجلس الوطني السوري.