عرب-لندن
جاد محمد
الدكتور حبيب الزيدي، الدكتور عادل الطيار، الدكتور أمجد حوراني، تذكروا هذه الأسماء جيدا، فقد كتبت سيرتها بمداد الذهب وسجل التاريخ الناصع، وهي التي بذلت أرواحها في سبيل إنقاذ الآخرين، ولم تتردد في أن تكون في الصفوف الأولى لمواجهة فيروس كورونا المستجد.
الأطباء الثلاثة من أصول مسلمة، سجلهم التاريخ البريطاني كأول أطباء سقطوا في معركة ضد الوباء، وربما قد يزيد إعجاب البعض بهم، عندما يعلم أن منهم من أحيل للتقاعد واختار طوعا أن يعود للمساعدة في إنقاذ أرواح الناس من هذا الوباء.
لم يكن الأطباء الثلاثة الراحلين، مجرد أطباء عاديين، بل تميزوا في مجالات تخصصهم وتركوا بصمتهم العلمية والطبية في الأقسام التي علموا فيها، ولهذا لم يكن مستغربا أن تختارهم الهيئات الطبية البريطانية ليكونوا في الخطوط الأمامية في الحرب ضد هذه الجائحة المميتة.
وفاة الأطباء الثلاثة في أيام متقاربة، خبر نزل كالصاعقة على الأقلية المسلمة في بريطانيا، التي شهدت أن خيرة كفاءاتها لم تتأخر عن تقديم يد العون لبلادهم عندما كانت في أمس الحاجة لهم، وفي نفس الوقت، كان الحادث وإن آلم الجميع، مصدر فخر، للمسلمين، الذين أكدوا مرة جديدة أن حسهم الوطني تجاه بريطانيا لا ينبع من كونها مقر إقامة فقط، وإنما وطن يضحون بأرواحهم في سبيله.
ورصدت مجلة عرب، الكثير من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تمحورت كلها حول الحديث عن الأطباء الثلاثة، في حين وصف المعلقون الأطباء "بالأبطال وشهداء الواجب". كيف لا وهم الذين انحازوا للإنسانية بتجرد، في فترة يعيش فيها العالم حالة من الهلع والخوف، التي خلقت الكثير من السلوكيات المنحازة للشعور بالأنانية والرغبة في الخلاص الفردي، على عكس تصرف الأطباء الثلاثة الذين آثروا أنفسهم، ولم يرهبهم الفيروس الفتاك، رغم تقدم سنهم، بل واجهوه لآخر يوم من حياتهم.
قطعا لن تنسى بريطانيا، هذه الأيام، وبدون شك سيدونها التاريخ في صفحات القصص الإنسانية التي في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البشرية، وربما تكون قصصهم مصدر إلهام للكثيرين من الناس، بأن التضحية قيمة نبيلة، يحتاجها الجميع في هذه الظروف العصيبة.
السباق للخير
بمسحة من الحزن وغصة في الحلق لا تخفى، يحكي عثمان الطيار، نجل الدكتور الراحل عادل الطيار، كيف أن والده الذي أحيل للتقاعد، لم يتردد أبدا عندما علم أن وزارة الصحة البريطانية أطلقت نداءات تطالب فيها الأطباء والممرضين، بالعودة للعمل للتعامل مع الوباء.
"مباشرة قدم والدي طلبا للعودة، وبالفعل تم قبول طلبه وبدأ بالعمل مع مرضى فيروس كورونا"، يحكي عثمان، وهو يتذكر كيف أن والده لم يكن يتقبل فكرة أن تقاعس الطبيب يمكن أن عن العمل أو مساعدة الآخرين، ولهذا عندما وجد الفرصة لم يتردد ولم يتأخر، بل بادر وأقدم بكل ما لديه من قوة قبل أن غدر به الفيروس.
وبعد أسابيع من العمل في المستشفى مع المصابين بفيروس كورونا، عاد الطيار ذات يوم إلى بيته مرهقا، حتى أن أهله ظنوه إرهاق العادة الذي يصاحب الطبيب بعد يوم عمل طويل وشاق تحت ضغط لا يحتمل، قبل أن يتحول من مجرد تعب إلى حمى، ثم إلى ضيق في التنفس، حيث اضطرت أسرته لنقله إلى العناية المركزة، ليتم فحصه، واكتشاف أنه مصاب بالفيروس ، إلى أن فارق الحياة.
يؤكد عثمان أنه طيلة فترة مرضه كان راضيا، وأبدا لم يكن يشتكي أو يتحسر أنه عاد للعمل وخاض غمار هذه المعركة، عوضا عن اختيار التقاعد والراحة والنأي بالنفس عن المخاطر، لكن مكانته الطبية وتخصصه في زراعة الأعضاء، جعلته دائما حريصا على زراعة الأمل في النفوس، وتقديم الدرس بأن هذا العالم مازال بخير.
وما يعزي آل الدكتور الطيار، هو حجم الاحتفاء بسيرة الرجل، وبذكراه التي بلغت أصداؤها العالم، "وصلتنا رسائل تضامن من كل بقاع العالم تتحدث عن والدي وعن تجربته"، يقول عثمان، الذي أكد أنه فخور بوالده، وكله أمل في أن تكون قصة والده درسا وعبرة للجميع في هذه الظروف لتقديم المساعدة لكل محتاج، وألا يبخل أحدهم على الضعيف بالعون والسند، كل حسب استطاعته.
طاقة جبارة
المدير التنفيذي للمستشفى الجامعي "دوربي أند بورتون"، عبر عن حزنه لوفاة الدكتور أمجد الحوراني، البالغ من العمر 51 سنة، وأكد أن الراحل كان من أكثر الأشخاص تفانيا في عملهم، وأنه كان "مثابرا لأقصى درجة" حسب بيان النعي الذي أصدره المشفى، واصفا إياه بأنه كان كتلة من الطاقة التي لا تتوقف عن العمل.
وأكد المسؤول الصحي، أن الراحل كان محبوبا من الجميع وحظي بثقة الفريق الطبي الذي كان يعمل معه عن كثب، مشددا أن الدكتور الحوراني كان يلعب دورا رياضيا في التنسيق بين مستشفيات المنطقة، وكان يقدم الدعم الضروري لفريقين طبيين للعمل في خط متواز في مواجهة كورونا، مضيفا، أنه لم يكن يتأخر أبدا عن تقديم المساعدة لزملائه في قسم الأذن والأنف والحنجرة، ما جعله شخصية معروفة بين الكثير من الأقسام الطبية.
وتولى الدكتور أمجد زمام الأمور في الكثير من المهمات الصعبة، وربما كان أصعبها قيادة فريق من الأطباء لمواجهة الفيروس. وعرف عن الدكتور الحوراني بين زملائه تحليه بالإقدام والمبادرة، وروح القيادة وعدم التواري في الساعات الحاسمة، إلى أن فارق الحياة بسبب العدوى.
وفي رسالة مؤثرة، كتبها نجل الدكتور الحوراني، قال أنه فخور جدا بوالده، الذي كانت حياته مقسمة بين حبه لعمله وتفانيه وإتقانه تخصصه، وبين أسرته التي أحبها وقدم لها الكثير. وأكد ابنه البالغ من العمر 18 سنة، أنه كان طيلة حياته نعم الأب ولهذا سيبقى فخورا به.
أسطورة طبية
الكفاءة الطبية والتميز العلمي ،هما الصفتان التي أكدها الكثير من أصدقاء الدكتور الراحل حبيب زايدي، الذي توفي في العناية المركزة في مستشفى "ساوث إند" في العاصمة لندن. وكان زايدي، أول طبيب يلقى مصرعه بسبب الوباء. وبحسب الكثير من التعليقات التي تركها المرضى وزملاء الراحل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كان الدكتور حبيب صاحب خبرة عالية ومهارة كبيرة في التعامل مع المرضى. وحصل الراحل قبل سنتين على جائزة التميز من المشفى التي عمل فيها، بل إن إدارة المشفى وصفته بكونه "أسطورة" في مجال عمله.