محمد أمين 

 

 في مقاهي ومطاعم حي "نايتس بريج" الشهير، وفي "إيجور رود" وغيره من الأحياء والشوارع العربية كما تسمى لاكتظاظها بالعرب، ينتابك شعور بأنك في عاصمة عربية. عائلات تتسوق، وأخرى تتحدث، وشباب يشربون القهوة العربية على أنغام الموسيقى العربية، سياح من كل البلدان العربية وخاصة الخليجية يحجون للندن كل صيف.

 أجواء من التنوع العربي في عاصمة أجنبية تجعل المرء يسأل حقيقة لماذا تفشل الدول العربية في جمع هذه الجنسيات المختلفة فيما يتحقق ذلك في لندن ؟ما سر نجاح العرب من جنسيات مختلفة في الجلوس كتف لكتف متناسين خلافاتهم، يرتادون نفس المقاهي وذات المطاعم والمقاصد السياحية، لا فرق بين مشرقي ولا مغاربي، ولا بين شامي وخليجي.. ولا خليجي وخليجي!

 صحيح أن سحر لندن يستطيع ذلك، لكن قراءة أعمق للمشهد تؤشر إلى أن العرب يتغيرون عندما يأتون للغرب، يلتزمون بقوانينه، ونظامه، وبمساواته بين الناس، فيما ينتكسون عند عودتهم لبلدانهم.

صحيح أن الحضارة الغربية هي وصفة متكاملة، لكن صحيح كذلك أنها آليات ينبغي أن نأخذ منها ما يلائم مجتمعاتنا وينهض بها، فهذه الآليات هي علم بشري لابد من البدء فيه من حيث انتهى الآخرون، فلى سبيل المثال وعوضا عن هذا التناقض في السلوك المشار له في بداية المقال ،ينبغي على العرب العمل على التعلم من هذه المجتمعات الغربية فن التعايش السلمي، واحتضان الناس من مختلف الأعراق و الأديان والخلفيات الثقافية والاجتماعية، فالكل يعيش بكل حرية تحت سقف القانون، يحترم الآخر ولا يقصيه، يختلف معه ولا يختلف على حقه في التعبير، والعيش بأسلوب الحياة الذي يناسبه، لا أفكار معلبة ولا تعقيدات اجتماعية، ولا تابوهات دينية، المعاملة هنا حقا هي الدين.

ولعل مقولة الشيخ محمد عبده التي قالها مبكرا عام 1881م مازالت صحيحة :" ذهبت للغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين"، أظنها مازالت تصح حتى الآن .

لا يفهم من حديثي هذا تمجيدا وانبهارا مطلقا بالغرب، فهو يعاني من إشكاليات الإغراق في المادية، كما أنه بدأ يحصد ثمارا مُرّة للغلو في حصره السعادة في اشباع الغرائز، إضافة لوجود مؤشرات بدأت تطفو على السطح عن تراجع دولة الرفاة فيه، لكن اعتماده الحرية قيمة أساسية في نظامه هي درة تاج تقدمه، إضافة لنظام العدالة الاجتماعية الذي ينتهجه، والذي يمثل منظومة التكافل الاجتماعي التي هي في الأصل إحدى ركائز ثقافتنا، فضلا بطبيعة الحال عن التسامح الذي يعد كلمة السر في النجاح في التعايش ودمج مختلف المهاجرين في دولة المواطنة.

باختصار شديد، فإن السعادة تتملك عرب بريطانيا وأوروبا عندما يرون إخوانهم في العروبة يزورونهم في المهجر، لكنهم يحزنون على حال كثير من بلدانهم التي قطعت أوصالها الخلافات السياسية والدينية والمذهبية، فمتى يكون العربي محبا للعربي من المحيط إلى الخليج، ومتى نعود من عاصمة الضباب بالقيم وليس فقط بالبضائع والهدايا، فلعل أثمن هدية يمكن أن يحملها العربي لبلاده الأصلية هي وصفة للتعايش والتسامح والانفتاح.

متى يحب بعضنا بعضا، ونعيش متساوين في الحقوق والواجبات، هذا بتقديري سؤال المليون جنيه إسترليني.

 

السابق العرب لا زالوا غائبين
التالي العودة للمدارس .. شجعوا الأبناء وقيموا الإجازات