جاد محمد- لندن
في لوحاتها، سحر طبيعة لبنان، وأصالة الثقافة العربية في الشرق الأوسط، ومع ذلك لا تغفل الفنانة التشكيلية كريستين صالح جميل، أن تمنح أعمالها مسحة عصرية تتماشى مع الحركة الفنية العالمية، وتعيش شغف العلاقة بين الطبيعة والإنسان لكل حواسها، وتحاول من خلال اختيارها لهذه الثنائية العميقة، أن توقظ لدى المتلقي إحساسه بمحيطه في عالم تغلب عليه الماديات والسرعة، لتكون لوحات كريتسين دعوة للتأمل المتأني في مآل الإنسان وطبيعته.
كيف بدأت علاقتك مع الرسم؟
البداية وأنا مازلت طفلة عمري تسع سنوات، كنت أشاهد خالتي، ترسم على القماش وكانت تتلقى دروسا في الرسم، وتعلمني ما تعلمت هي، فبدأت الرسم، واكتشفت أنني قادرة على إنجاز لوحات جيدة، فقررت دراسة الرسم وقواعده، وكان لخالتي دور كبير في بداية مساري، حيث كانت تزودني بكل مقتنيات الرسم واللوازم الضرورية لذلك، وأول ما قمت به هو الرسم بالألوان المائية على القماش، ولاحظ أساتذتي تفوقي في الرسم، فأصبحت مكلفة بإنجاز رسومات يقوم الطلبة بالتعليق عليها، وكتابة مواضيع إنشاء حول رسوماتي
لكن متى يمكن القول إنك انطلقت فعليا في مجال الرسم ودراسته بشكل أكاديمي؟
البداية الحقيقية كانت عند وصولي إلى المملكة المتحدة، سنة 1990، بدأت دراسة الفن لسنتين، ثم بعد ذلك درست التصميم وحصلت على شهادة من أكاديمية الفنون الراقية في لندن سنة 1997، وحصلت على هذه الشهادة بتفوق، بعد ذلك واصلت البحث والتنقيب عن أسرار الرسم من خلال المشاركة في المعارض العالمية، والتدريبات المكثفة، ولم أقطع علاقتي بأساتذتي للتعرف دائما على كل جديد في عالم الرسم، وبعدها اشتغلت في مجال الإعلانات، وهو المجال الذي يتطب حسا فنيا عاليا خصوصا هنا في لندن التي تعتبر من أكبر معاقل سوق الإعلانات في العالم، يعني أن مساري الفعلي في الرسم الآن يمتد لعقدين بين الدراسة والممارسة الفعلية، رغم أن علاقتي مع الرسم بدأت وأنا طفلة.
ما هي المواضيع التي تشتغلين عليها في لوحاتك؟
انطلقت من رسومات عن الحيوان، ثم بعد ذلك الوجوه، لكن استغرقت كثيرا في لوحات الطبيعة، وهذا راجع إلى تأثري بالطبيعة في لبنان، والحنين لتلك الطبيعة التي تشعر أنها لها روحا تخاطبك بلغتك، وزاد من تعلقي بالأعمال التي تجسد الطبيعة، هو حياتي في لندن التي تتوفر على طبيعة خلابة، ولهذا فأنا دائما أحب التواجد بين أحضان الطبيعة والتأمل في الأشجار وفي المناظر الطبيعية، لأنها تمنحني الإلهام.
الملاحظ في رسوماتك أيضا الحضور القوي للأحصنة ما السبب؟
لا أستطيع أن أصف شغفي بالأحصنة، لدرجة أنني تلقيت دروسا مكثفة في ركوب الأحصنة، وفي المكان الذي أقطن فيه هناك الكثير من مزارع الأحصنة، ونحن نعرف القيمة الرمزية للحصان في ثقافتنا العربية، كما أنني أعتبر أن أكبر تلاحم بين الطبيعة والحيوان والإنسان، تتلخص في العلاقة بين الفرد والحصان والأشجار، فلهم دلالة على الأصالة والفرادة والجذور الراسخة، وأنا في لوحاتي أحاول إظهار هذا التلاحم بين هذه العناصر، وأن يصل الإحساس للمتلقي، بضرورة تأمله في محيطه والتقاط التفاصيل الجميلة التي فيه، والتي ربما يمر عليها في يومه مرور الكرام بحكم التعود، فلوحاتي هي دعوة للتوقف مع جمال الطبيعة في عالم بات يغلب عليه كل ما هو مادي.
لماذا تمزجين في لوحاتك بين الرموز الأصيلة وبين الأشكال والأنماط الحديثة؟
ممكن هذا راجع إلى أنني قضيت جزءا مهما من حياتي في لبنان وخصوصا فترة الطفولة وبداية الشباب، هذا ترك لدي خزانا هائلا من الصور التي لها دلالة خاصة في العالم العربي، وعندما وصلت إلى هنا بقيت البصمة اللبنانية حاضرة، وأنا عملت على تكريسها، ولذلك فأنا عندما أرسم أحرص دائما أن تكون اللوحة نابعة من وجداني ومعبرة عن شخصيتي، ولا يمكن أن أفصل لبنان عن شخصيتي، وهذا الحرص على الثقافة العربية، دفعني للتعاون مع الخطاط العالمي مراد بطرس، وقمنا بإنجاز لوحتين مزجنا فيها الخط العربي بالرسم، وتم عرض هذه اللوحات في أهم المعارض العالمية، وأخذت صيتا عالميا.
ما هي المعايير التي تعتمدين عليها في لوحاتك والتي تمنحك الفرادة في الأعمال؟
في الفترة الأخيرة أصبحت منشغلة بالعلاقة التي تجمع بين الإنسان والطبيعة، وكيف يدبر الإنسان محيطه، وباتت لدي أسئلة وجودية من قبيل هل تتفاعل الطبيعة مع المشاعر التي يفضي بها الإنسان، وكيف تعبر الطبيعة عن نفسها، كل هذه الأسئلة، أحاول الآن أن أعبر عنها في لوحاتي، فمنذ بداية الخليقة، أثارت الطبيعة تساؤل وقلق الإنسان، وتارة كان يخاف منها، وتارة طوعها لصالحه، وآخر معرض لي كان عن الأشجار، ويمكن القول إن توقيعي الفني هو الإنسان والطبيعة بكل ما تحمله هذه الثنائية من قلق وجودي، وأسئلة فلسفية، تساءل كنه هذا العالم.
الأعمال الفنية هي تعبير عن حالة نفسية يمر بها المبدع هل ينطبق هذا الأمر عليك؟
بطبيعة الحال، كل لوحاتي تحمل شيئأ من روحي، من إحساسي بالمكان والزمان، بمشاعري، فمثلا إذا ما شاهدت مشهدا ترك في نفسي أثرا، أحاول ترسيخ هذا المشهد وأوصل للمتلقي هذا الإحساس خصوصا لو كان إحساسا جميلا وإيجابيا، هذا طبعا دون ممارسة الوصاية للمتلقي فهو حر في تأويل اللوحة حسب رؤيته، ولكن كيفما كان الانفعال الذي يتركه المكان في نفسيتي سواء جيد أو بشع فأنا أستقبل الأمر بإيجابية، وأحاول عكسه في اللوحة، ويمكن لشخص آخر أن تحدث عنده انفعالات مغايرة، وهذه معجزة الطبيعة.
من خلال تفاعلاك مع المتلقين لصورك هل تشعرين أنك نجحت في إيصالك شعورك بالطبيعة؟
أعتقد أنني وقفت في ذلك إلى حد بعيد على اعتبار أنه بات لدي الآن ما يمكن أن أطلق جامعي اللوحات، الذين ينتظرون أعمالي الجديدة من أجل اقتناءها بعد أن أعجبوا بطابعها والتيمة التي تعالجها، وعندما يصبح شخص واحد يشتري خمس لوحات أو أكثر، فهذا يعني أن أعمالي تركت لديهم إحساسا جيدا وانطباعا إيجابيا عن الطبيعة التي تحيط بنا، وخلال محادثاتي مع المتابعين لأعمالي، أجد أنهم يتقاسمون معي نفس المشاعر التي أحدثتها لدي اللوحة، وهذا نجاح بالنسبة لي أن أرفع من حساسية الجمهور لكل ما هو طبيعي في زمن السرعة والعالم الافتراضي، والتقليد والأشياء المزيفة، تبقى الطبيعة الشيء الأصيل الذي لا يمكن محاكاته ولا تقليده ولا تعويضه.
هل لديك طقوس معينة قبل الانطلاق في رسم أي لوحة؟
عادة قبل الانطلاق في أي لوحة، تصيبني حالة من الأرق، وكأن اللوحة تتمخض في ذهني، وما إن أمسك بخيطها الأول، حتى أنطلق ولو في ساعة متأخرة من الليل، في رسم ملامحها الأولى، وما تتبدى أمامي الأفكار، وأضع الريشة على اللوحة، أشعر براحة نفسية، لأنني أعتبر أنني عبرت بالفكرة من المتخيل إلى الواقع، وأحيانا تكون النتيجة النهائية، أفضل بكثير من المتوقع، لكن أعتقد أن أهم شيء بالنسبة للفنان، هو ألا يفقد شغفه، وألا يتوقف عن طرح الأسئلة العميقة، والتقاط أدق التفاصيل، والقدرة على الدهشة مثل الأطفال، فهذه الروح هي الكفيلة بأن تضمن للفنان قدرة على الإبداع والإتيان بأعمال قادرة على جر الملتقي نحو عوالم الطبيعة العميقة، الكامنة تحت الطبقة السميكة من عالمنا المادي.