بعد سقوط الرئيس السوري بشار الأسد، تجددت النقاشات في بريطانيا حول كيفية تعامل الحكومة البريطانية مع النظام السوري طوال السنوات الماضية، وسط مواقف متباينة من السياسيين البريطانيين.
وبينت هذه المواقف مدى تعقيد العلاقة بين المملكة المتحدة وسوريا، حيث كانت في البداية تتسم بالود، لكن سرعان ما تحولت تلك العلاقات إلى تصعيد سياسي بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011.
تعاون وثيق في عهد بلير
في بداية حكم بشار الأسد عام 2000، كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، من بين القادة الغربيين الذين رأوا في الأسد قائدًا يحمل رؤى إصلاحية قد تحدث تغييرًا إيجابيًا في سوريا. وصف بلير في البداية بشار الأسد بـ "القائد العصري" الذي يمكن التعاون معه، إذ كان النظام الجديد في سوريا يبدو في نظر بلير فرصة لبداية جديدة للعلاقات بين سوريا والمجتمع الدولي. كانت تلك الفترة تشهد زيارات متبادلة بين الزعماء البريطانيين والسوريين.
وفي عام 2001، كانت زيارة بلير إلى دمشق هي أول زيارة من نوعها لرئيس وزراء بريطاني إلى سوريا. ومثلت هذه الزيارة نقطة تحوّل في العلاقات بين البلدين، حيث رحب بلير بنظام الأسد، واعتبره فرصة للتعاون في قضايا الشرق الأوسط.
وفي المقابل، زار الأسد لندن في عام 2002، حيث التقى بالملكة إليزابيث الثانية، وهو ما اعتبره البعض حدثاً غير مسبوق في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. كما أفادت التقارير بأن الأسد كان مرشحًا للحصول على "وسام الفروسية" من المملكة المتحدة، وهو تكريم كان يُمنح للقادة الذين يتمتعون بعلاقات قوية مع بريطانيا.
ولم يكن بلير الوحيد الذي وصف الأسد بهذه الطريقة. وزير الخارجية البريطاني الأسبق، روبين كوك، زار سوريا في عام 1998، وكان من أوائل المسؤولين البريطانيين الذين قرروا بناء علاقات دبلوماسية مع الأسد.
كذلك، تحدث وزير آخر في حكومة بلير، بيتر هاين، في البرلمان عام 2000 عن الأسد قائلاً إنه "قائد ذو رؤية عصرية، وكان لديه الكثير من الطموحات لتطوير سوريا".
واستمر هذا التفاؤل البريطاني لعدة سنوات، حيث تواصلت الزيارات الدبلوماسية، بما في ذلك زيارة بيتر ماندلسون، المقرب من بلير، إلى دمشق في 2001، والتي وصف فيها الأسد بـ "الشخص الذكي والمثقف" الذي يسعى لتحسين الوضع الاقتصادي في سوريا.
لكن العلاقات البريطانية-السورية شهدت تحولًا كبيرًا في منتصف العقد الأول من القرن 21.
تحول العلاقات: اتهام الأسد بدعم الإرهاب
في عام 2006، بدأ توني بلير، الذي كان لا يزال في منصبه، في اتخاذ مواقف أكثر حدة تجاه سوريا. فقد اتهم الأسد بدعم الإرهاب، مشيرًا إلى علاقات النظام السوري مع إيران وحزب الله، مما دفع بلير إلى انتقاد سوريا علنًا واعتبارها جزءًا من "محور الشر". هذه الاتهامات تزامنت مع تصاعد الحروب في الشرق الأوسط، حيث بدأت المملكة المتحدة في اتخاذ مواقف أكثر تشددًا تجاه سوريا.
ومع اندلاع الثورة السورية في 2011، وفي أعقاب الربيع العربي، تحولت العلاقة بشكل جذري. حيث قوبل النظام السوري بموجة من الاحتجاجات الشعبية، إلا أن الأسد اختار قمع هذه الاحتجاجات، مما دفع الدول الغربية إلى تعديل موقفها بشكل جذري. وكانت المملكة المتحدة من بين الدول التي أدانت نظام الأسد، ودعمت المعارضة السورية.
تردد بريطانيا في التدخل العسكري: من كاميرون إلى ميليباند
في عام 2013، وصل الموقف البريطاني إلى مفترق طرق. بعد الهجوم الكيميائي الذي شنّه النظام السوري ضد المدنيين في غوطة دمشق، قرر رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ديفيد كاميرون، طرح فكرة التدخل العسكري في سوريا. كانت المملكة المتحدة قد شهدت ضغوطًا من الولايات المتحدة لتوجيه ضربات جوية ضد أهداف تابعة للنظام السوري. ومع ذلك، في تصويت حاسم في مجلس العموم البريطاني، صوتت الأغلبية ضد التدخل العسكري، وهو ما شكل نكسة كبيرة لكاميرون وحكومة المملكة المتحدة.
وكان إيد ميليباند، الذي كان زعيم حزب العمال في تلك الفترة، في صدارة المعارضين للتدخل العسكري في سوريا. فقد قاد ميليباند حملته ضد فكرة استخدام القوة العسكرية البريطانية في سوريا، موجهًا انتقادات شديدة للحكومة بسبب افتقارها لخطة واضحة بشأن ما سيحدث بعد التدخل.
وفي تصريحات حديثة قال ميليباند: "لم أندم على منع التدخل العسكري في سوريا. كان السؤال في ذلك الوقت حول ما إذا كان القصف الجوي من قبل بريطانيا هو الخيار الصحيح، لكن لم يكن هناك أي خطة واضحة لما سيحدث بعد ذلك". كما أضاف أن المملكة المتحدة "لا يمكنها أن ترسل قواتها العسكرية إلى سوريا بدون خطة واضحة، خاصة بعد التجربة المؤلمة في العراق".
وكان وزراء آخرون في حزب العمال مثل هارموند، وزير الصحة الحالي، قد انتقدوا بشدة فكرة التدخل العسكري، مؤكدين أن ضربات جوية لا يمكن أن تؤدي إلى انهيار النظام السوري، مستشهدين في ذلك بضربات الولايات المتحدة لسوريا في 2017 و2018 التي لم تسقط نظام الأسد.
وفي المقابل، انتقد وزير الصحة الحالي في حكومة حزب العمال، ويس ستريتينغ، السياسة البريطانية في تلك الفترة قائلاً إن "تردد بريطانيا والولايات المتحدة في التدخل خلق فراغًا سمح لروسيا بتعزيز دعمها للنظام السوري، مما مكن بشار الأسد من البقاء في السلطة لفترة أطول".
تريزا ماي: تدخل عسكري محدود في سوريا ومطالب بسحب جنسية أسماء الأسد
خلال فترة قيادة تريزا ماي لبريطانيا، كانت مواقفها تجاه سوريا تتسم بالحذر، مع تصعيد عسكري محدود.
وفي عام 2017، طالب بعض النواب البريطانيين، مثل توم براك وناظم زهاوي، بسحب الجنسية البريطانية من أسماء الأسد، زوجة الرئيس السوري، بسبب دعمها العلني لنظام الأسد خلال الحرب الأهلية.
حيث اعتبر هؤلاء النواب أن أسماء الأسد، التي ولدت في لندن، تشارك في آلة دعاية للنظام السوري الذي ارتكب جرائم حرب. وكان هناك تساؤلات قانونية حول قدرة الحكومة البريطانية على سحب الجنسية من شخص مزدوج الجنسية، مما جعل الحكومة تتجنب اتخاذ خطوات ملموسة ضدها.
ورغم مطالبة وزير الخارجية البريطاني آنذاك، بوريس جونسون، الدول الأخرى باتخاذ إجراءات أقوى ضد النظام السوري، بما في ذلك فرض عقوبات على أفراد مقربين من الأسد، لم يكن هناك رد فعل رسمي من الحكومة البريطانية بسحب الجنسية.
وفي عام 2018، قادت تريزا ماي بريطانيا في شن ضربات جوية بالتعاون مع الولايات المتحدة وفرنسا ضد أهداف في سوريا، وذلك رداً على الهجوم الكيميائي في دوما. وقالت ماي في مؤتمر صحفي إن الضربات كانت "عادلة وقانونية"، وأن الهدف منها كان معاقبة النظام السوري على استخدام الأسلحة الكيميائية، وليس تغيير النظام.
وأكدت ماي حينها أن الهجمات كانت دقيقة وموجهة، بناءً على معلومات استخباراتية موثوقة تشير إلى أن النظام السوري هو المسؤول عن الهجوم. واعتبرت ماي أن هذه الضربات كانت بمثابة "رسالة واضحة" ضد استخدام الأسلحة الكيميائية، لكنها شددت على أن الهدف لم يكن إسقاط الحكومة السورية.
خلال فترة تريزا ماي في رئاسة الحكومة البريطانية، كان وزير الخارجية آنذاك، بوريس جونسون، يتبنى موقفًا شديدًا ضد الرئيس السوري بشار الأسد.
ووصف جونسون في عام 2017، الأسد بـ"الإرهابي الأكبر" ودعا روسيا إلى الاعتراف بأن الأسد "سام" بالمعنيين الحرفي والمجازي. في مقال قديم نشرته صحيفة "صنداي تلغراف"، أكد جونسون أن الأسد يستخدم الأسلحة الكيميائية بشكل متعمد ليس لأنها فظيعة وحسب، بل لأنها تثير ردود فعل من الانتقام العنيف، مما يجعل من المستحيل أن يحكم الشعب السوري مجددًا
موقف كير ستارمر: حذر شديد بشأن المستقبل
بعد أكثر من عقدين من علاقات مضطربة مع نظام الأسد، جاء تصريح رئيس الوزراء الحالي، كير ستارمر، الذي عكس حذرًا شديدًا بشأن الوضع في سوريا بعد سقوط الأسد.
ففي حديثه هذا الأسبوع في مجلس العموم، قال ستارمر: "نحن جميعًا نرحب بسقوط الأسد، وآمل أن يكون هذا نقطة تحول طال انتظارها لسوريا، ولكن هذا ليس أمرًا مضمونًا". هذه التصريحات تأتي في وقت تشهد فيه سوريا حالة من الفوضى والانقسام السياسي والعسكري.
وبينما يختلف السياسيون البريطانيون في مواقفهم من التدخل العسكري وسبل دعم المعارضة السورية، يرى محللون سياسيون أن سوريا ستحتاج إلى سنوات طويلة من إعادة البناء السياسي والاقتصادي.