عرب لندن - لندن
خاص
صدر حديثا عن دار جسور للترجمة والنشر، تحديدا يوم 26 أبريل، كتاب "الضابط الذي ترتعش فتحتا أنفه حين يغضب أو يتوتر" للكاتب أحمد زين.
ويمزج الكتاب بين طرازين أدبيين، هما أدب السيرة الذاتية والقصص الأدبية اللذان قرر الكاتب وصفهما بعبارة "سردية ذاتية.
وتدور أحداث الكتاب عبر زمنين منفصلين شكلا ملامح طفولة وشباب أحمد زين، نسبة للمسافة الفاصلة بينه وبين السياسة المعاصرة.
وأحمد زين كشاب مصري في فترة التسعينات التحق بالجامعة - جامعة القاهرة- واعتقل أثناء وجوده على مقاعد الدراسة عام 1995.
أما إيابا إلى مرحلة الطفولة، تفتح وعيه بين أسرة لها ماض سياسي اختار أن يسير على سراطه، ليدفع ضريبته لاحقا.
وكون رحلة أحمد زين كانت مثيرة للاهتمام في نفسها، ابتعد الأخير عن محاولات الإبهار اللغوية والتحذلق باختيار المرادفات، بل عمل على الكتابة بلغة مباشرة.
وجلّ ما طرحه الكتاب من المشاهد هل تلك التي تحيطها جدران الزنازين المصرية رفقة تشكيلة من الطلاب الجامعيين الأخر بيومياتهم واللحظات التي تمر عليهم.
ويعكف الكتاب ليستحضر ما استحضر من عبق حقبة الثمانينيات والتسعينيات التي أحاطت بالشارع العربي.
ولربما من المعقول أن يشعر أي قارئ - المصري خاصة إن صح التعبير- بالارتباط بالكتاب كونه يعكس الملامح السياسية لجيل الثمانينيات والتسعينيات، مع التأكيد على أن عبار "إن صح التعبير" لم تأتِ محض صدفة، بل أن ملامح العالم العربي باتت متشابهة في العصر الحديث.
وقد يكون مثيرا للفضول كون عنوان الكتاب طويلا للبعض، لكن الكاتب أكد هنا أن "الشطارة" ليست في اختصار العناوين، بل في اختزال أيام عدة وعديدة من خلال شخصية واحدة كان لها من العنوان نصيب وهي الضابط.
ذلك الضابط الذي أمر باعتقال الطالب وزملاءه والذي مارس عبر سنوات دورا محوريا في ترهيبهم ومحاولة ثنيهم عن دورهم في العمل الطلابي
يخوض الكاتب في هذا العمل تجربته الثانية، بعد مجموعة قصصية صدرت منذ نحو عشرين عاما تحت عنوان "الحرية إرادة".
وإن لم يكن هذا الإيجاز في تلخيص رحلة مثيرة سُطرت في بضع كلمات كافية، فلا شك أن سيرة أحمد زين تضفي للملامح ملامحا، هو صحافي مصري يعيش في بريطانيا منذ أكثر من عشر سنوات، درس اللغة العربية وآدابها في دار العلوم، ثم أكمل الدراسات العليا في الفلسفة، وحصل على دبلوم النقد الفني من أكاديمية الفنون بالقاهرة، وخلال مسيرته المهنية كتب وأنتج عددا من الأفلام والمسلسلات الوثائقية والسينمائية.
إليكم مقتطفات من الكتاب اختارها أحمد زين لكم:
١
قال لي بكل تبرم وملامحه تزداد حدة: لماذا تضع نفسك يا بني في عداء للدولة من بداية حياتك الجامعية؟ دعك من اتحاد الطلاب، والتفت لمستقبلك الذي يضيع... لم أفهم ما الذي حشر هذا الكلام الكبير في حديثنا، وكنت مستغرقًا في تفكير عميق، بأمرين: أولا لماذا يصبغ الدكتور شعره باللون البني المائل للحمرة، والذي لا يكاد يخفي جذور الشعر البيضاء، كنت أرى هذا اللون سخيفًا، وثانيًا: في المهمة الثقيلة التي تنتظرني في الخارج للحديث مع ضباط أمن الجامعة للمرة الأولى
٢
حين سلمني للملاحقين كانوا يضربونني بينما يقتادونني بتعجل لسيارة الشرطة، كنت ما أزال أسمع طرقات قلبي.. بوضوح أكثر الآن.. لكنني كنت أسمع أزيزًا لا أدري مصدره تزامن مع ألم بالغ ورعشة في جسدي، كنت أصرخ:
- مالوش لازمة الضرب أنا جاي معاكم..
سمعت صوتي يخرج غريبًا متقطعًا، كأنه ليس صوتي، وبالفعل لم يكن كذلك، كان صوتي مهزوزًا متقطعًا... فهمت حينها أن الأزيز كان لصواعق الكهرباء المحمولة التي انهالت على جسدي من جموع الممسكين بي.
النظرة التي كانت في أعينهم فريدة، نظرة منتصر منتشٍ، كنت أفكر ببراءة غير لائقة، ما الذي يجعل وجوه هؤلاء الغرباء محملة بكل هذا الانتشاء حين ننكسر، ما الذي يجعل جباههم تتألق إذا داسوا جباهنا بنعالهم؟، لماذا يكرهوننا؟ وكيف لا ترف لهم عين حين يلحقون بنا الأذى؟ طوال الطريق نحو سيارة الشرطة كانت الأفكار تتوالى على رأسي: من سيبلغ أهلي بالأمر؟ كيف ستعاني أمي؟ وكيف سيتصرف أبي؟
٣
قبل هذه الحكايات كنت أعرف صورة أبي كموظف كادح، مهموم بما اعتبره رأس ماله في الحياة واستثماره الوحيد: العائلة، لكن هأنذا أتعرف على أبي من جديد، يخفي خلف بساطته-ما رأيته وما زلت- بطلا ومناضلا وحكاية أسطورية.
هنا فهمت ذكرى من الطفولة لم أكن أفهمها جيدًا؛ لأن عمري وقتها كان أقل من الخامسة بقليل، حين اصطحبنا أبي لأول مرة للسينما لمشاهدة فيلم لعادل إمام وعبد المنعم مدبولي، لكن توقعاتنا خابت جميعًا؛ لأنه لم يكن فيلمًا كوميديًّا، لكنه كان تراجيديا كاملة اسمها «إحنا بتوع الأتوبيس».. فهمت، بعد حكاية أخي لي عن تاريخ أبي، لماذا رأيت أبي للمرة الأولى والوحيدة في حياته يبكي، في مشهد تعذيب عبد المنعم مدبولي، وقد ربطوه من عنقه بحبل، وجرجره السجَّانون ككلب.
٤
الصفعات التي لا تراها مرعبة أكثر من تلك التي تراها وتتوقعها، لا يمكن أن تحمي نفسك بيديك المقيدتين، ولا أن تميل رأسك حتى تخفف أثر الصفعات، دور الغمامة في التأثير عليَّ مخيف، الظلام يجعل كل شيء أكبر، الشرطي الذي وراءك تتحول أنفاسه اللزجة إلى فحيح مخيف، أصوات المحققين تكتسي بنبرة ميتافيزيقية كأنهم يعرفون كل شيء، صوت كوب الشاي وهو يوضع على المكتب يصير منذرًا بإيذاء بدني قادم، الحساسية لكل ما تسمع أو تحسه يتحرك تصبح أعلى، المخاوف تزداد.
الظلام يحيلهم وحوشًا، ينزع بشريتهم، يجعل صوتهم الأجش أكثر قسوة وبلادة... الظلام يلعب لصالحهم، يخفي عني الإرهاق البادي في أعينهم، التململ من أحدهم، ملامح وجه ساذجة وغبية، شاربًا غير منمق تحت أنف كبير يدعو للضحك، صلعة حادة... الضوء سيكشف أنهم بشر كغيرهم يمكن أن تحاورهم، أن تكسبهم، أن تلعب على إنسانيتهم، أو حتى أن تخدعهم، لكن في الظلام ما من سبيل... فهم يتحكمون في المشهد تمامًا.
٥
رغم المصير المجهول، كنت سعيدًا بأننا في سيارة الترحيلات، كطفل صغير في نزهة مع أبيه، أقرأ لافتات المحلات: مطعم سمسمة، كلية الفنون التطبيقية، جامعة القاهرة، يلتهب حماس الزملاء عند مرورنا بالجامعة ترتفع صيحات الزملاء في السيارة بهتافات عن الحرية، ورفض الظلم، والإفراج عن مصر، بينما يبدو لنا كوبري الجامعة في الأفق كان الطريق يكتظ بلوحات إعلانية ألبومات جديدة للطيفة، لعمرو دياب ومحمد منير، أفيش فيلم سارق الفرح، قاصد كريم بيومي، بسكوت الشمعدان زي ما بتحبه بيحبك كمان، تلفزيون تليمصر، مسرحية نشنت يا ناصح إخراج عبد المنعم مدبولي، شارع محمد علي شريهان وفؤاد المهندس، الجنزير لمحمد سلماوي، وصورة أشخاص لهم وجه قطة على لوحة ضخمة مضيئة وقد كتب عليها شيكولاتة جيرسي واكلة الجااااو.
وصلنا الآن إلى شارع النيل بالعجوزة، ، وأنا ما زلت أقرأ: «جرحوني وقفلوا الأجزخانات» لحسام حسني، «بتحب مين» لأنغام، «صديق» لحميد الشاعري، «ديدي» للشاب خالد، «تجيش نعيش» لعلي الحجار، سيمون «في حاجة كدة»، خالد عجاج «وحشتني»، «ولا تصدق» لأصالة، «أرض الشرق» هشام عباس، ايمان البحر درويش «يا وابور يا مولع»، باسكال مشعلاني «نظرة عيونك»، ذكرى «وحياتي عندك».
صعدت السيارة كوبري أكتوبر، تجاوزت ميدان التحرير ونزلت في شارع رمسيس، أذكر نفسي بكل شيء كأنني أخشى أن أنساه لاحقًا: هذه شجرة، هذه سيارة صفراء، هذا شاب يوصل الطعام للساهرين.. كانت السيارة تجري مسرعة، طرقات القاهرة الفارغة عقب منتصف الليل في الشتاء، توقع بعض الزملاء أننا ذاهبون إلى مصر الجديدة حيث مقر نيابة أمن الدولة العليا، تمنيت لو طال الطريق؛ لأنني على مدار ساعة تقريبًا استمتعت كثيرًا بكل لحظة فيها عبر لعبة التخيل.