حازم المنجد - لندن

مع اقتراب اليوم العالمي للقهوة، والذي يصادف مطلع تشرين الأول/أكتوبر، تحتفي الدول بالمشروب الأكثر شعبية وانتشارا حول العالم، ذلك المعشوق الأسمر الذي أضحى لا غنى عنه لمعظم قاطني الأرض، وارتبط ارتباطا وثيقا بعاداتهم اليومية وموروثاتهم الشعبية منذ قرون طويلة وباتت الشوارع وأزقة الحارات تكاد لا تخلو من المقاهي التي تعج بمرتاديها صباح مساء. 

فمن منا لا يستمتع ويشعر باللذة والانتعاش عند احتساء رشفة من فنجان قهوته حين الاستيقاظ مع ساعات الصباح الأولى، وهناك من صار يقرن أداء وظيفة يومية معينة أو القدرة على استجماع القوة والتركيز؛ سواء في الدراسة أو العمل أو حتى أثناء القيادة، بوجود كوب من القهوة الغني بالكافيين برفقته.

ويعتقد تاريخيا أن الموطن الأصلي للقهوة هو إثيوبيا، حيث تقول إحدى الروايات والأساطير القديمة أن أحد رعاة الغنم، وهو شاب يُدعى كالدي كان يرعى قطيعا من الغنم في غابات كافا المطيرة وارفة الظلال في إثيوبيا، ثم لاحظ أن الماعز أصبحت أكثر نشاطا وحيوية وتميل للتراقص بمشيتها، وبعد بحث ومتابعة اكتشف أن الماعز أكلت ثمارا حمراء تشبه الكرز الأحمر من الأشجار، وبعد أن قرر تجربة تلك الثمار بنفسه انتابه شعور بالبهجة والسعادة، صار على أثرها يتمايل مثل قطيع أغنامه.

ثم توجه كالدي على الفور إلى عمه الراهب في دير مجاور، مسرورا يكاد يطير فرحا بهذا الاكتشاف الجديد، والذي بدوره عرضها على مجموعة من الرهبان الذين لم ترق لهم، مما دفعهم لإلقائها في النار خوفا من "الأرواح الشريرة"، لكن عندما تسللت رائحة القهوة المحمصة إلى أنوف الرهبان أحسوا بذات إحساس كالدي من قبل، ليتراجعوا عن رأيهم بعد أن تصوروا حجم الحماسة التي ستضفيها هذه الطاقة الجديدة على الطقوس الدينية، وليبدأ آنذاك تحميص ذلك النوع من الثمار وغليها بالماء وشربها، معلنًا ولادة أول فنجان قهوة عبر التاريخ.

في حين ترجع روايات أسطورية أخرى أصل القهوة إلى الصوفي اليمني غثول أكبر نور الدين أبي الحسن الشاذلي، عند سفره إلى أثيوبيا حيث لاحظ أن الطيور تتمتع بحيوية غير عادية عند تناول ثمرة من الأشجار عرفت لاحقاً بالقهوة ومن هنا يرجح اكتشافها.

لكن أول الأدلة الموثوقة على شرب القهوة أو معرفة شجرة البن ظهرت في منتصف القرن الخامس عشر، بفضل الصوفي الإمام محمد بن سعيد الذبحاني المعروف باستيراد البضائع من إثيوبيا إلى اليمن. وتم تصدير حبوب البن لأول مرة من إثيوبيا إلى اليمن من قبل التجار الصوماليين من بربرة، بالإضافة إلى ذلك حصل سكان "المخا" التي كانت تعد مركز تجارة البن في معظم العصر الحديث، على غالبية قهوتهم من التجار المقيمين في بربرة.

واستخدمت الصوفية في اليمن هذا المشروب كمساعد على التركيز ونوع من الروحانية عند أداء طقوس الحضرات والأناشيد الدينية، ثم انتشرت القهوة من اليمن شمالا إلى مكة والمدينة في شبه الجزيرة العربية، ثم إلى المدن الكبرى مثل القاهرة ودمشق وبغداد واسطنبول زمن السلطنة العثمانية والتي حُرّم فيها شرب القهوة قرابة مائتي عام بناء على فتاوى فقهية.

وسرعان ما انتشرت كذلك في أوروبا، لكن بعض رجال الدين أدانوا هذا المشروبَ عندما وصل البندقية عام 1615، إلى أن تمَت الموافقة عليه من قبل البابا كليمنت بعد أن تذوقه. ثم بدأت القهوة في الانتشار من خلال إنشاء المقاهي في إنكلترا والنمسا وفرنسا وألمانيا، وأصبحت مشروبا رئيسياً في وجبة الإفطار وبدأَ التنافس على زراعة القهوة بسبب شعبيَها، واستطاع الهولنديون الحصول على شتلات من القهوة في النصف الأخير من القرن السابع عشر، وأصبحوا يمتلكون تجارة ضخمة في هذا القطاع.

ومن المعلوم أن العاصمة لندن بوصفها مدينة غنية بالتنوع الثقافي والعرقي والحضاري تزخر بالعديد من المقاهي ذات الطابع الشرقي العربي والإفريقي التي تمتاز بمذاق قهوتها الخاص، والممزوجة برائحة الهيل الشهية التي تفوح في أرجاء المكان، كما تتفرد في طريقة إعدادها وتحضيرها عن باقي المقاهي الأوروبية.

وغالبًا ما يرتبط شرب القهوة لدى السكان من أصول عربية وشرق أوسطية بطقوس وتقاليد اجتماعية تتعلق بلمة الأهل والأقارب حول "دلوة-ركوة" القهوة أثناء الزيارات والمناسبات، وما يسودها من تبادل الأحاديث عن قصص الحياة وأخبارها اليومية وسرد بعض الحكايا والذكريات التي مررنا بها في الماضي بحلوها ومرها.

يذكر أن العالم يستهلك ما يصل إلى 3 مليار كوب من القهوة يوميًا، وتتربع البرازيل على قائمة أكثر الدول إنتاجا للقهوة حيث تصدر سنوياً ما يناهز ثلث الانتاج العالمي تقريبًا ويليها كل من فيتنام وكولومبيا وإندونيسيا وإثيوبيا.

السابق بريطانيا: بعد أشهر من محاولات إعادة إحيائها ولادة أول قندس منذ 400 عام.. والسبب!
التالي باحثة أمريكية في علم النحل تعلن انبهارها بسورة النحل والقرآن الكريم