عرب لندن
البريطانيون أدركوا متأخرا خطأ عدم مصارحة الشاة بشأن مشكلات بلاده الداخلية. هل يمكن أن تُصلًح أنظمة الحكم المستبدة في منطقة الشرق الأوسط دون أن تتغير بثورات شعبية؟ ليس للسؤال صلة بالذكرى العاشرة لثورات الربيع العربي. فهو يتصل بالذكرى الثانية والأربعين للثورة الشعبية الإيرانية التي أطاحت بنظام حكم الشاه محمد رضا بهلوي، أعتى أنظمة الحكم المدعومة دوليا من واشنطن ولندن وإقليميا من إسرائيل، وبتجربة بريطانيا القاسية معها

تكشف الوثائق البريطانية أن سقوط النظام بفعل الثورة الإيرانية، التي بدأت شعبية بمشاركة كل فئات المجتمع ثم سيطر عليها التيار الديني لاحقا، فاجأ صانع القرار في لندن

ووفق الوثائق، فإنه في مراجعة البريطانيين الشاملة لأخطائهم في التعامل مع الأزمة، كان من بين الأسئلة الصعبة: كيف يمكن مساعدة الأنظمة المستبدة على تصحيح مسارها لتضمن استقرارا حقيقيا ومن ثم حماية مصالح الغرب؟

خلال النقاش بين مسؤولي وزارة الخارجية البريطانية بمن فيهم سير أنطوني بارسونز، السفير السابق لدى طهران، رُسمت ملامح نظام الشاه المستبد على النحو التالي:

الاعتماد الرئيسي، في تأمين نظام الحكم وبقائه، على القادة الكبار في القوات المسلحة. وأقر سير بارسونز بخطأ ذلك قائلا كان لدي اعتقاد بأن بقاء النظام لا يعتمد على الشعبية بل يتوقف على مساندة قيادة القوات المسلحة. ولذا قدرت، خطأ، بأن الشاه لن يسقط إلا بانقلاب عسكري وليس بعمل شعبي

تطبيق برنامج تنمية اقتصادية غير منظم وبوتيرة أسرع من قدرة المجتمع على مواكبتها ، استهدف جر البلاد إلى التغريب والميل إلى أوروبا على حساب الثقافة والتقاليد الوطنية الراسخة. ولم يلب هذا طموحات الشعب

اختيار الوقت الخطأ لتطبيق برنامج التحرر الاقتصادي والاجتماعي الشامل

تغريب المثقفين الذين كانوا يريدون مزيدا من الحرية والمشاركة في العملية السياسية

تغول أجهزة الاستخبارات التي ضللت الشاه، فانقطعت صلته بنبض الناس . وساهم في ذلك أنه وظف شخصيات تقنية وليست سياسية لإدارة شؤون البلاد

استشراء الفساد، فرغم تفاقمه، فإن الشاه لم يكن يعي الحد الذي وصل إليه العفن ، الذي انتشر في مؤسسات الدولة بسبب هذا الفساد

الوصفة البريطانية تنصح الأنظمة بالإنصات إلى الناس قبل أن تواجه انتفاضات شعبية تجبرها على الرحيل. وبعد مراجعته لسياسة بريطانيا تجاه الأزمة الإيرانية في ذلك الوقت، انتهى الدبلوماسي المخضرم نيقولاس براون إلى عدد من النصائح لحماية الأنظمة من الثورات الشعبية الحتمية. وأيده في بعضها السفير بارسونز وغيره من الدبلوماسيين:

أولا: النقاش الصريح والأمين مع النظام. ويشير براون إلى أن تجربة بلاده مع الشاه تقول إن أفضل طريقة يؤمٍّن بها الغرب مصالحه مع أي نظام حكم مستبد موال له هي تأسيس علاقة أمينة وصريحة معه . وفي السياق نفسه، انتقد براون سياسة مدح الشاه. وقال كان الإطراء هو السلاح المستخدم في التعامل مع الشاه للحفاظ على المكاسب الاقتصادية

وتشير الوثائق إلى أن جيمس كالاهن، رئيس الوزراء البريطاني، أرسل في شهر سبتمبر/ أيلول عام 1978، قبل سقوط النظام بشهور قليلة، برسالة إلى الشاه بشأن العنف المتزايد في إيران قال فيها من المحزن أن يحدث كل هذا في وقت تتحرك إيران تحت قيادة جلالتكم الإمبراطورية بثبات في اتجاه التحول إلى مجتمع صناعي حديث يتسق مع دور البلاد المهم في الشؤون العالمية

غير أن هذه السياسة أدت إلى أنه لم يعد قادرا على الاستفادة من النقاش الصريح لكل مشكلات إيران مع أقرب حلفائه، الولايات المتحدة وبريطانيا ، كما أدى إلى أنه تصرف بطريقة جعلته يعتبر نفسه محصنا من النقد. وحذر براون من أنه بهذا المنحى لم يكن من السهل أبدا على الإيرانيين أنفسهم أن يتكلموا معه بصراحة . وفي مثل هذه الظروف أصبح الشاه وبشكل متزايد معزولا عن الحياة الحقيقية في إيران . وكان لذلك انعكاس سلبي على مشروعه التنموي الطموح لأن العزلة عن الحياة أسهمت في أن اتسمت خططه بقدر مبالغ فيه من الطموح، فأساء حساب قدرة البلاد على مواصلة تنمية اقتصادية سريعة، ولم يأخذ، كذلك، المعارضة وخاصة من جانب المؤسسة الدينية والتجار، مأخذ الجد

ثانيا: الاستماع إلى مخاوف المعارضين المشروعة بشأن التغيير. ويشير بارسونز إلى أن هدف تيار المعارضة العام كان معتدلا وهو إقامة مجتمع يسير نحو التغيير والتقدم بمعدل أبطأ متماشيا مع الحفاظ على التقاليد والدين . غير أن الشاه تجاهل ذلك فلم يعد له مؤيدون سوى في بعض المناطق الصناعية ، كما وحد هذا المعارضة ضده

ثالثا: مراجعة سياسة بيع الأسلحة الغربية، خاصة بيع كميات كبيرة من الأسلحة باهظة الثمن للأنظمة التي لا تتمتع بشعبية قوية. وفي الحالة الإيرانية، قالت المراجعة إن إحدى وسائل حماية النظام من الوقوع في أخطاء تجعل نهايته حتمية هي بيع كميات أقل من الأسلحة المكلفة له، فهذا كان سيوفر مزيدا من الأموال المتاحة لمشروعات التنمية المدنية التي تعود بمنافع سياسية على النظام

وقد تعرضت وزارة الدفاع البريطانية لانتقاد بهذا الخصوص. فقالت المراجعة تبين وجود ميل لدى الوزارة لانتهاز أي فرصة ترى فيها اهتماما لدى الإيرانيين بشراء أسلحة دون أن تتشاور مع وزارة الخارجية مسبقا . ولفتت المراجعة النظر إلى أنه حتى إذا كانت بريطانيا قد أعادت النظر في سياسة بيع الأسلحة لإيران، فإن البائعين المنافسين الآخرين لم يكونوا ليفوتوا الفرصة. وأقرت المراجعة بذلك، لذا دعت إلى موقف غربي موحد من بيعه الأسلحة. وقالت الخلاصة هي أن سياسات بيع الأسلحة الغربية (وليس البريطانية وحدها) قد ساهمت إسهاما حقيقيا في سقوط الشاه

وقد أيد أيه. جي. مونرو، رئيس إدارة الشرق الأوسط آنذاك، هذا الطرح. وقال إن “الدروس المستفادة في وضع سياستنا المستقبلية في التعامل مع مثل هذه الأنظمة تشمل “أهمية العمل السياسي كأساس لأي تقدير فعال للفرص التجارية مع أي دولة”، وأنه “لا يمكن لأي قدر من العتاد العسكري أن يحمي حاكما فقد ثقة ومساندة غالبية رعيته”.

رابعا: لا حديث عن استقرار مع مثل هذه الأنظمة. وفي رده على نتائج المراجعة، عبر السفير بارسونز عن اعتقاده بخطأ استخدام تعبيرات مثل “استقرار”، و”شعبية” عند الحديث عن نظام الشاه.

وقال “لا يوجد نظام حكم في العالم الثالث مستقر بمفهومنا للكلمة. النظام يحافظ فقط على درجة أكبر أو أقل من الهدوء. كل أنظمة العالم الثالث تقريبا تعتمد على ولاء قواتها المسلحة وليس شعبيتها”.

خامسا: المكاشفة بشأن حقوق الإنسان. فقد ألمح بارسونز إلى التناقض بين التصريحات العلنية والمواقف الفعلية خلف الأبواب المغلقة. وقال، في إشارة إلى أحد اللقاءات بين الدكتور ديفيد أوين، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، والشاه، “فيما يتعلق بتهرب ديفيد أوين من إثارة حقوق الإنسان مع الشاه، فإن الحقيقة هي أن أوين تحدث بجملة واحدة صيغت بطريقة لطيفة للغاية ثم غير الموضوع”.

وكان براون قد أشار، ضمن خلاصات مراجعة السياسات البريطانية، إلى أنه لو كانت بريطانيا قد واصلت سياسة التحدث بأمانة مع الشاه “لكانت قد قدمت إسهاما مهما في تفكيره بشأن التطور السياسي لبلاده” و”لصورت نفسها على أنها تريد بإخلاص تام بذل كل ما تستطيع لحماية موقع الشاه”.


سادسا: الاتفاق على سياسة غربية موحدة. نصحت مراجعة وزارة الخارجية بأنه لو تعاونت بريطانيا والولايات المتحدة في إسداء النصح للشاه، لربما أنصت وصحح المسار ونجا من السقوط. وطور بارسونز الفكرة، مشيرا إلى أن “الحل الممكن الوحيد هو سعي مشترك من جانب الأمريكيين واليابانيين والدول القائدة في المجموعة الاقتصادية الأوروبية، وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا”. ووفق رأي السفير، فإنه “لو كنا قد جمعنا كلنا معلوماتنا وتوصلنا إلى خلاصات مشتركة بشأن كيفية إدارة الشاه شؤونه بشكل أفضل لاستباق أي أزمة داخلية، لشكلنا جبهة جماعية وأجبرناه على الإنصات”. وأوضح بارسونز أنه في هذه الحالة “كان سيصعب على الشاه رصد مؤامرة فردية عليه، وكان مثل هذا الهجوم سيهزه”، ومن ثم يعيد النظر في سياساته.

سابعا: العلاقات الوثيقة مع النظام لها مخاطرها. تشير إحدى النتائج إلى أنه رغم أنه كان لهذه العلاقات “قيمة خدمت المصالح البريطانية”، فإنها “ولدت شعورا زائفا بأن النظام مستقر”. ولُفت الانتباه إلى أن هذا “جعل الشاه والبريطانيين يعتقدون أن هناك غالبية صامتة تقدر المنافع الاقتصادية والاجتماعية لحكم الشاه والاستقرار والتماسك اللذين أعطاهما لإيران.” غير أنه تبين في النهاية أنه لو تحقق الرخاء الاقتصادي، فإنه “يميل إلى أن يُسكت المعارضة السياسية”.

ماذا لو أصرالنظام على سياساته؟

قام التحليل البريطاني للحالة الإيرانية على أنه من المهم أن تبحث الدول الغربية، وفي وقت مبكر، عن البدائل التي تلجأ إليها تحسبا لعدم استجابة النظام للنصح، حتى تضمن مصالحها في حال تغير النظام خاصة بثورة.

ويكشف بارسونز عن أنه عندما بلغ نظام الشاه نقطة فاصلة تأكد للبريطانيين عندها أن نظامه لم يعد له مستقبل، وأنه يصعب توجيه النصح له، بدأ البريطانيون، وإن تأخروا ، في رعاية المعارضة.

قال السفير “نقطة التحول في مصير الشاه، أي نقطة اللاعودة، جاءت يوم الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني (1978) عندما أجبره الجنرالات على تعيين حكومة عسكرية. قبل ذلك كانت هناك دائما فرصة بأنه قد ينجو كملك دستوري وبعد ذلك خفضنا ظهورنا في المشهد وكثفنا رعايتنا، التي كانت قد بدأت بالفعل، للمعارضة”.

وبهذه النصيحة يصدق السفير على إشارة براون للتبعات السلبية لقطع التواصل مع المعارضة إرضاء للنظام. فقد قال بروان، في مراجعته، إنه “بمجرد إغلاق السفارة قنواتها على المعارضة، كانت المصادر الوحيدة للمعلومات هي منظمة الاستخبارات والأمن الوطني “السافاك” والشائعات والصحافة الخاضعة للسيطرة”. ويضيف “كان أسهل كثيرا على السفارة أن تصل إلى تقييمات متوازنة، إن توفرت لديها معلومات أكثر من عناصر المعارضة لتقارنها برواية السافاك”.


ماذا كانت تفعل الولايات المتحدة مع الشاه؟

حرص سير براون على دراسة تجربة الأمريكيين في التعامل مع الشاه. فالتقى بشخصيات من الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي آيه” ووزارة الخارجية في زيارة رتبت خصيصا لهذا الغرض إلى واشنطن.

ووفقا لنتائج هذه الزيارة والاتصالات بين أجهزة البلدين الاستخباراتية والدبلوماسية، فإن “الخبرة الأمريكية مع نظام الشاه تشير إلى أن نتائج جيدة قليلة تتحقق من محاولات لتصويب مسار الأنظمة الداخلية في الدول الأخرى، خاصة لو كانت غير متسقة مع نفسها ولا تقوم على مبادئ ثابتة”.

وأحد الأمثلة التي ساقها البريطانيون على عدم ثبات الرؤية الأمريكية على مبدأ واحد هو موقفهم من الحكومة العسكرية التي شكلها الشاه في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني عام 1978، في محاولة أخيرة يائسة للنجاة من السقوط.

وتكشف المراجعة البريطانية عن أن زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي اتصل يوم 4 نوفمبر بالشاه هاتفيا وقال له إنه “ليس لديه علم بحكومة عسكرية فشلت”. ولفت براون إلى أنه “بعد يومين فقط (أي في السادس من نوفمبر) من هذا الاتصال نُصبت حكومة الجنرال أزهاني” في إيران.

غير أن المراجعة تشير أيضا إلى أنه في يوم التنصيب “قالت الخارجية الأمريكية إنها تعتقد بأن احتمال نجاح الحكومة العسكرية الآن بعيد للغاية”.


 

السابق بانكسي يتبنى رسم "السجين الهارب"
التالي أنجلينا جولي تقرر بيع لوحة تشرشل الوحيدة في المزاد العلني