"المسلمون وفرنسا.. سوء الفهم الكبير"
منتدى التفكير العربي – لندن
عقد منتدى التفكير العربي ندوة بعنوان "المسلمون وفرنسا .. سوء الفهم الكبير" يوم الجمعة الموافق 9/10/2020. وأدار الإعلامي والباحث المغربي، أيوب الريمي، الندوة التي استضاف فيها الرئيس السابق للجمهورية التونسية، الدكتور محمد المنصف المرزوقي، حيث ناقش أسباب وخلفيات الهجوم المتكرر من الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) على الإسلام، وحقيقة تصاعد الخطاب اليميني بشكل عام في فرنسا، وأزمة سوء الفهم التي يبدو أنها قائمة بين الدولة الفرنسية والمسلمين،حيث وضع الرئيس التونسي السابق الدكتور محمد المنصف المرزوقي، خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الإسلام في سياق الحسابات السياسية والانتخابية، مبينا أن ماكرون يحاول الخروج من مأزقه السياسي من خلال الهجوم على الإسلام، واستمالة اليمين المتطرف.
وكان الرئيس الفرنسي قد قال بأن الاسلام يمر بأزمة حقيقية في جميع أنحاء العالم وإلى أن المسلمين غير قادرين على الاندماج في المجتمع الفرنسي، والمجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، داعيا إلى إسلام بصبغة أوروبية يستوعب الثقافة الأوروبية، ويتعايش معها.
العلمانية في فرنسا والإسلام
أكد الدكتور المرزوقي في محض تعليقه على تصريحات ماكرون التي أثارت ضجة في العالم الإسلامي، على أنه لابد من التميز بين الجانب السياسي والجانب الثقافي عند تناول هذا الموضوع، موضحا بأنه سياسيا ينظر إلى التصريح على أساس من كونه مغازلة لأصوات اليمين المتطرف، بحيث يتم حصره في اطار المنافسة الانتخابية؛ أما ثقافيا فإن هذا الطرح ذا أبعاد خطيرة على المدى الطويل ما من شأنه أن يهدد قيم الجمهورية الفرنسية مشيرا إلى أن كثيرا من أصدقائه من المثقفين الفرنسيين لا يقبلون هذا الطرح، ولا العبث بهذه القيم، من حيث كون المكاسب الانتخابية آنية بينما الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع العالم الاسلامي أكثر فائدة سيما إذا كانت فرنسا تطمح إلى لعب دور مستقبلي كقوة في البحر الأبيض المتوسط التي ارتبطت بدوله تاريخا إلى حد ما، وان كانت علاقتها الاجتماعية والاقتصادية لاتزال محصورة بنسبة 80% بأوروبا، منوها إلى أنه حتى نفهم تصريح ماكرون يجب أن نفهم نشأت العلمانية في فرنسا، حيث نشأت على اثر ثورة استهدفت الطبقة الارستقراطية المتحالفة مع الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، فالعلمانية الفرنسية في رأي الدكتور المرزوقي تناصب جميع الأديان العداء وليس الدين الاسلامي وحده، ولكن باقي الأديان خرجت خارج دائرة المنافسة ولم يبقى سوى الدين الاسلامي الأكثر ظهورا في فرنسا.
كما بين المرزوقي أن الشعب الفرنسي لديه خلط كبير في ادراك مجموعة من المفاهيم المرتبطة بالإسلام، والقضايا الاسلامية والجماعات الاسلامية شأنه في ذلك شأن العرب الذين يضعون كل الغرب بثقافاته المتنوعة، وعلومه، وسلوكه؛ في سلة واحدة ويصدرون حكما عاما عليه بمعاداته للإسلام وبكونه حسنا، أو سيئا، كذلك في فرنسا هنالك خلط كبير بين الإسلام، والإسلام السياسي، وبين الإسلام السياسي المدني، والإسلام السياسي المسلح، وأيضا بين الإسلام السياسي، والأصولية وبين الأصولية الفكرية، والأصولية الجهادية التي تؤدي إلى السلاح، وبين الإسلام السياسي المسلح الشرعي مثل المقاومة في غزة وبين الإرهاب. وقد أسهم في هذا الخلط في رأي المرزوقي وجود مثقفين فرنسيين من المرتزقة؛ وعليه يرى أنه يجب أن نفرق دائما بين القيم، والحضارة، وبين الشعب، والمؤسسات المدنية، وبين الأنظمة دون الخلط بينهم.
الحاجة إلى اسلام أوروبي جديد
حول ما إذا كان هنالك اسلام أوروبي قادر على التعايش مع الفكر الأوروبي دون أن يتصادم معه أو يسعى لاستئصاله، أشار المرزوقي إلى أنه لا يوجد اسلام خاص بكل منطقة على حدى كأن نجد اسلاما اندونيسيا مثلا ؛ فالإسلام هو الاسلام عقيدة ومعتقدا في رأيه ،ولكنه يرى بأن هنالك مرونة في كثير من الجوانب التي تسمح للإسلام بالتكيف مع عادات وتقاليد المجتمع دون أن يمس هذا بأصول العقيدة؛ جازما بأن الدين الاسلامي لا يمثل اغتصابا فكريا وإنما يقوم على المنطق، والعقل، وتحقيق المصلحة وعليه يرى بأن من يفهم الدين الاسلامي بمعزل عن التيارات، والحركات الاسلامية السياسية لن يجد نفسه في صدام معه، عازيا الخلط الذي وقع فيه (ماكرون) إلى ذلك عندما أشار إلى أن الاسلام بات يواجه الأزمات في كل العالم.
الإسلام السياسي في أزمة
سياسيا يعتقد المرزوقي بأنه يمكن تقبل فكرة أن الاسلام السياسي يواجه تحديات ضاربا مثالا على ذلك بالسعودي لأنه يغطي على الاستبداد، و في السودان لأنه قامت ضده ثورة، و في مصر لأنه وقع بين المطرقة والسندان، وأيضا في سوريا والعراق...لكنه يرفض أن يقال بأن الاسلام كدين في أزمة على الاطلاق دون وضع مرجعية لهذا القول كمقارنته بأديان ومعتقدات أخرى لأن في هذا تجني كبير على الاسلام موضحا ذلك بأنه على سبيل المثال المسيحية تواجه أزمة خانقة في العالم أجمع سواء بما تم كشفه مؤخرا من قصص مؤلمة تتمثل بالاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكنائس، أو التراجع الكبير في الممارسة المسيحية في أوروبا بنسبة 20%، ويعتقد أن هذا الأمر ينسحب على الماركسية، التي اختفت، والديمقراطية التي تمر بأزمة مدللا على ذلك بأن مرصد مراقبة الديمقراطية أطلق صرخة بعد تراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية، مستنتجا من ذلك أن الإسلام السياسي قد يكون في أزمة ككل الحركات السياسية، لكن الإسلام كدين على العكس من ذلك تماما هو متجذر ويصعب اقتلاعه.
وبما أن (ماكرون) ذكر تونس كمثال فقد أكد الدكتور المنصف المرزوقي أن الاسلام في تونس جزء من الديمقراطية ولا أزمة اطلاقا معه مستدركا بأن تونس قد تكون تواجه مشكلة مع الارهاب لكنه أكد أن الاسلام بريء من هذا الارهاب.
الانعزال الشعوري والكيان الموازي
أشار (ماكرون) في خطابه إلى أن هنالك فئات من الناس الذين يعيشون في فرنسا ويرفضون ثقافتها ويزدرون قيمها قد وصلوا لمرحلة من الانعزال الشعوري بحيث لم يعودوا قادرين على التكيف مع الثقافة الفرنسية فضلا عن أن يكونوا جزءا منها ما حدى بهم إلى إنشاء كيان خاص بهم يمثل ثقافتهم ويمثل بالتالي دولة داخل الدولة مدعيا بأن المسلمين يمثلون هذه الحالة وقد رفض الدكتور منصف المرزوقي هذا الادعاء الذي لا يستند إلى حجة أو دليل في رأيه مبينا أن هنالك فئات أخرى داخل المجتمع الفرنسي تسعى لذلك لم يشر لها (ماكرون) مثل الحركات الانفصالية التي توجد في (كاليدونيا) مبرهنا على ذلك باستطلاع الرأي الذي تم اجراؤه في (كاليدونيا) و الذي أظهرت نتائجه أن نصف سكان (كاليدونيا) يريدون الانفصال عن فرنسا. وهذا ايضا في رأيه ينطبق على الحركات الانفصالية في (غوادلوب) كما بين أن من قام برفع السلاح للانفصال في تاريخ فرنسا في السبعينات هم (الكورس) وليس المسلمون. وأن الحركات التي تطالب باللغة المحلية، وبنوع من الحكم الذاتي موجودة في منطقة (الألزاس)، والتي يتحدث أهلها بلهجة ألمانية. مؤكدا على أن هذه هي الأمثلة التي يمكن إيرادها إذا ما أريد الحديث عن الانعزال والانفصال بشكل موضوعي.
دوافع السياسية الفرنسية من جعل "مشكلة الإسلام" أولوية
المشكلة الأساسية بالنسبة للشعب الفرنسي كما يراها الدكتور منصف المرزوقي بحكم معرفته العميقة بفرنسا حيث عاش فيها فترة طويلة، كما أنه متزوج من سيدة فرنسية هي المشكلة الاقتصادية بينما تقع القضايا التي تمس الدين في المرتبة الرابعة أو الخامسة في قائمة اهتمام الشعب الفرنسي، ومحاولة بعض السياسيين في رأيه وضع هذه القضية على رأس اهتمامات الشعب الفرنسي لشغله عن القضايا الاقتصادية مسألة بالغة الخطورة حيث يعتقد أن هذا من شأنه تهديد الديمقراطية وتأجيج المشاكل الاجتماعية في فرنسا بما يجعلها أكثر خطورة من المشاكل الاقتصادية لتهديدها وحدة المجتمع الفرنسي وسلامته.
التحدي الذي يشكله المسلمون على الطبقة الفرنسية الوسطى
في رأي الدكتور منصف المرزوقي، فإن مصدر التهديد الرئيسي للطبقة الفرنسية الوسطى والتي تلعب دورا حيويا في السياسة الفرنسية هو ما طرأ من تغير على الأقلية المسلمة، والتي بلغ تعدادها ما يقرب من الخمس أو الستة ملاين، و جاءت فرنسا في الخمسينات والستينات وكانت تمثل طبقة فقيرة مسحوقة، وعمالة رخيصة حيث بين أنها تحولت إلى طبقة وسطى وأصبحت أكثر تعليما وأكثر ذكاء ونجاحا وبالتالي أكثر تأثيرا ومنافسة للطبقة الوسطى الفرنسية ما يمكنها مستقبلا في رأيه من احداث تغيرات دراماتيكية في المجتمع الفرنسي.وعليه لا يستبعد المرزوقي استهداف المسلمين في فرنسا من بعض الفئات المأزومة مستقبلا ومحاولة استفزازهم مناشدا المسلمين في فرنسا ضبط النفس وتجنب ردود الفعل العنيفة، والغير محسوبة على هذه التصرفات، و موضحا أن التيار اليميني المتطرف اتحد مع التيار اليساري المتطرف في حربه على المسلمين في فرنسيا إذ التقت أهدافهم بهذا الشأن،حيث يعتقد أنه بينما يكره اليمين المتطرف الاسلام لأن الكراهية غريزة متأصلة فيه، فإن اليسار العلماني المتطرف يكره المسلمين لأسباب أيديولوجية، وعقائدية، وليس بسبب العنصرية، لأن تصوره حول الدين يتمثل بأنه "أفيون الشعب" وأنه "متخلف"... إلخ؛ وبالتالي فالخطر الحقيقي في رأي المرزوقي هو أن التيارين يؤديان نفس الحرب على الإسلاميين، ويمكن أن يلعبا دورا كبيرا في الانتخابات،أما بقية الشعب الفرنسي، فيعتقد بأنهم عقلاء وغير راغبين في الانخراط بمثل هذه التجاذبات. وهنا يرى المرزوقي أنه يتوجب على المسلمين أن يلعبوا دورا في توضيح الرؤية، وتفكيك المفاهيم وإدانة العنف. ورفض التهم التي يتم إلصاقها بالإسلام والمسلمين وتقديم رؤية موضوعية للمشهد وتوضيح أن الأنظمة القمعية المستبدة التي تدعمها فرنسا وأوروبا والتي التقت أهدافها مع أهداف التيارات العلمانية، واليسارية، المتطرفة في مناصبة الاسلام العداء والتحريض عليه هي المولد الحقيقي للإرهاب وهي من دفعت شعوبها لهجرة أوطانهم. معتقدا أنه بهذه الطريقة العقلانية المدعومة بالحجة والبرهان يتم سحب البساط من تحت أقدام المغامرين الذين يغامرون بسمعة وطنهم ومستقبلهم.
تطلعات مسلمي أوروبا
يجزم الدكتور المرزوقي بأن الأغلبية الساحقة من مسلمي فرنسا يرغبون بالعيش بسلام وأمان في المجتمع الفرنسي الذي يسعون للاندماج به، وليس لديهم أي مشكلة مع الثقافة الفرنسية و أن يمارسوا معتقداتهم ضمن هذه الثقافة منوها إلى أنه قد يكون هنالك أقلية تشعر بالقهر نتيجة لعملية الاقصاء التي تعرضت لها والتي اعترف (ماكرون) نفسه في خطابه بأن الفرنسيين مارسوا هذا من خلال تهميش هذه الفئة وعدم امتلاك الشجاعة للاعتراف بها مبينا أن هذه الفئة بدأت تبحث عن أي غطاء للتعبير عن حنقها وغضبها فاستخدمت الغطاء الاسلامي لتمردها وفي اعتقاده لو وجدت هذه الفئة في حقبة العشرينات لتبنت أيدولوجية أخرى لكن شاءت الأقدار أن تكون الايدلوجية الاسلامية هي الباقية في الساحة بعد اندحار باقي الأيدولوجيات. وبالتالي يرى بأن الادعاء بأن المسلمين يساندون الارهاب ادعاء عاري عن الصحة وتعوزه الأدلة مبرهنا على ذلك بأن المسلمين هم الضحية الأولى للإرهاب.
أزمة (ماكرون) ونفوذ فرنسا
يتصور المرزوقي أن ماكرون في وضع صعب لأنه مقبل على معركة انتخابية وهو يحاول سحب أكبر عدد من أصوات اليمين المتطرف المتمثل بمارين لوبان،عبر خطاب جذري واضح ضد المسلمين، لكنه يعتقد بأن فرنسا ستدفع الثمن لأنه من رابع المستحيلات أن يكون لفرنسا دورا إقليميا إذا عادت المسلمين في هذه المنطقة، مشيرا إلى أنه من الخطأ افتراض أن منطقة المغرب العربي منطقة مغلقة على الثقافة الفرنسية مستدلا على ذلك بأن هنالك جيل جديد في المغرب العربي بعيد العهد بالاستعمار الفرنسي، لا يعتبر نفسه مرتبطا ارتباطا ايدلوجيا بفرنسا، وانما ينظر إلى فرنسا نظرته لأي بلد أجنبي؛ وعليه يمكنه بسهوله قطع روابطه بفرنسا والتحول نحو ثقافة أخرى مستدلا على ذلك بالدعوات التي انطلقت حديثا في دول المغرب العربي للمطالبة بالتحول نحو اللغة الانجليزية عوضا عن الفرنسية.
الدور المتوقع من المثقف العربي
المثقف من وجهة نظر الدكتور المرزوقي هو شخص له مكانة أكاديمية ما يستعملها للتدخل في الشأن السياسي كسلطة معنوية، وهو الذي يوضح للناس الخطأ من الصواب، فدوره وفقا للمرزوقي هو استخدام مكانته الأكاديمية لأخذ مواقف أخلاقية عادلة، وإعطاء أهل السياسية بعض الأفكار التي يمكن أن تغير من اتجاهاتهم، وأن يلعب دور الضمير.لكن الدكتور المرزوقي يرى أن المثقفين العرب اليوم لا يقومون بالدور المناط بهم من حيث مقاومة عملية التضليل الرهيبة التي تتعرض لها الشعوب العربية والتي تمثل التحدي الأكبر والأخطر لها.