عرب لندن
فاز الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية بمواجهة الديمقراطية كامالا هاريس اليوم الأربعاء، محققا بذلك عودة استثنائية إلى السلطة. ورغم أن حملته ركزت بشكل كبير على "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، إلا أن فوزه من المرجح أن يكون له تبعات سياسية واقتصادية كبيرة على المملكة المتحدة أيضًا.
وأظهر استطلاع للرأي أجرته "YouGov" الشهر الماضي أن 64% من البالغين البريطانيين يفضلون كامالا هاريس، في حين أن 18% فقط يرغبون في عودة دونالد ترامب.
كما كشف الاستطلاع نفسه أن 76% من الناخبين البريطانيين يرون أن نتيجة الانتخابات الأمريكية تهمهم "بشكل كبير" أو "بدرجة معقولة"، في حين يرى 17% فقط أن النتيجة ليست مهمة كثيرًا أو على الإطلاق.
وعلى أرض الواقع فإن ما يتعلق بقضايا التجارة والدفاع والشؤون الخارجية وتغير المناخ، قد تجعل "العلاقة الخاصة" بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مختلفة تمامًا في ظل الفترة الرئاسية الثانية لترامب.
(التجارة والاقتصاد)
في ضوء الاهتمام الكبير باتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تلوح تحديات كبيرة في الأفق لتحقيق هذه الاتفاقية. فعلى الرغم من دعم ترامب السابق لهذه الاتفاقية، فإن توجهه نحو فرض رسوم جمركية تصل إلى 20% على جميع الواردات الأمريكية قد يُعقّد الوضع بشكل كبير للمملكة المتحدة، ويُؤثّر على التجارة العالمية بشكل عام.
وصرّح وزير التجارة البريطاني، جوناثان رينولدز، بأن المسؤولين البريطانيين استعدوا لكافة الاحتمالات المتعلقة بالانتخابات الأمريكية. وأكد في حديثه مع صحيفة "بوليتيكو" أن الحكومة البريطانية كانت تعمل على تحليل كل السيناريوهات المحتملة وتأثيرات وعود الحملات الانتخابية على الاقتصاد البريطاني.
من جهة أخرى، يرى البروفيسور جوناثان بورتس، أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة بجامعة كوليدج لندن، أن تطبيق ترامب لزيادات كبيرة وشاملة في التعريفات الجمركية قد يشكّل صدمة شديدة للاقتصاد العالمي، بما في ذلك اقتصاد المملكة المتحدة.
وأشار بورتس إلى أن المسار المالي الحالي للولايات المتحدة غير مستدام على المدى المتوسط، وأن التخفيضات الضريبية التي يدعو إليها ترامب قد تؤدي إلى ارتفاع معدلات الفائدة على المدى البعيد، مما قد يزيد من الضغوط الاقتصادية على المملكة المتحدة ويؤثر على وضعها المالي.
أما فيما يتعلق بالعقبات أمام تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة، فإن أحد أكبر العوائق يتمثل في أن اتفاق بريكست الذي تفاوض عليه رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون كان، بحسب ترامب، يُعوق التوصل إلى اتفاقية تجارة مع الولايات المتحدة.
وحتى في حال أبدى ترامب انفتاحًا نحو هذه الاتفاقية، فإن الحكومة البريطانية لن تتجاوب مع مطالب ترامب بفتح سوق الرعاية الصحية في المملكة المتحدة أمام الشركات الأمريكية، ولن توافق على تخفيف معايير الرفق بالحيوان ومعايير جودة الأغذية للسماح باستيراد اللحوم الأمريكية، خاصة ما يتعلق بموضوع "الدجاج المكلور" الذي أثار جدلاً سابقاً.
(العلاقات مع الصين)
كما مما هو ظاهر فإن عودة ترامب إلى السلطة ستعيد النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين إلى الواجهة، مع احتمال تصعيد المواجهة من خلال فرض رسوم جمركية تصل إلى 60% على الواردات الصينية. هذه الرسوم من شأنها رفع تكاليف السلع في الولايات المتحدة بشكل كبير، مما قد يؤدي إلى زيادة التضخم ويؤثر على الاقتصاد العالمي بأسره.
وفيما يتعلق بالمملكة المتحدة، من المتوقع أن تؤثر هذه السياسات الأمريكية بشكل حاد على اقتصادها، حيث تعتبر الولايات المتحدة أكبر سوق تصدير لبريطانيا، إذ بلغت قيمة الصادرات البريطانية إلى أمريكا حوالي 188.2 مليار جنيه إسترليني في السنة المنتهية بأكتوبر.
من جانبه، صرّح السفير الأمريكي السابق لدى المملكة المتحدة، فيليب ريكر، خلال مقابلة مع "سكاي نيوز" أن على بريطانيا "أن تتوقع" التزام ترامب بهذه السياسات، ما يشير إلى جدية ترامب في هذا التوجه.
وعلى الرغم من ذلك، لمّحت المستشارة البريطانية رايتشل ريفز إلى أن بريطانيا قد لا تتخذ إجراءات مضادة، وأكدت أن بريطانيا ستعمل مع أي رئيس منتخب في الولايات المتحدة وستدافع عن رؤيتها للتجارة الحرة.
لكن، يبدو أن النهج البريطاني في هذه القضية لن يجد استجابة إيجابية من ترامب، حيث أن فرض مثل هذه السياسات قد يؤثر بشدة على موقف بريطانيا في علاقاتها التجارية مع الصين وأوروبا، مما قد يؤدي إلى نشوب حروب تجارية انتقامية.
وبحسب "سكاي نيوز" فإن أحد المطلعين على التخطيط الاستراتيجي للسيناريوهات الحكومية أشار إلى أن بريطانيا ستكون أمام خيار صعب بين تعزيز علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة أو توجيهها نحو الصين، مما يعكس حالة الضعف التي تواجهها بريطانيا كدولة تجارية تعتمد بشكل كبير على الكتل الاقتصادية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي، الصين، والولايات المتحدة.
وفي ضوء افتقار بريطانيا لحلفاء اقتصاديين كبار يمكن الاعتماد عليهم، فإنها ستتأثر بشكل غير متناسب، مما قد يجعلها محاصرة اقتصاديًا بين هذه القوى التجارية الكبرى، ويشكل تحدياً كبيراً للسياسات التجارية المستقبلية.
(الناتو والإنفاق الدفاعي)
عند النظر إلى التحولات المحتملة في السياسة الدفاعية للولايات المتحدة تحت قيادة دونالد ترامب، فإن الأمر يثير قلقًا بين حلفاء واشنطن في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وخاصةً المملكة المتحدة.
في عام 2017، سافرت رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك تيريزا ماي إلى واشنطن لإقناع ترامب بالتأكيد علنًا على التزامه بدعم الناتو وتحذيره من الاقتراب المفرط من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ورغم تأكيد ترامب دعمه للناتو في ذلك الوقت، تحدث أعضاء سابقون في فريقه بعد تركه الرئاسة عن مدى قربه في عدة مناسبات من الانسحاب الكامل للولايات المتحدة من الحلف.
ورغم أن انسحابًا أمريكيًا كاملًا من الناتو يبدو غير مرجح، إلا أن هناك مخاوف من أن يطالب ترامب الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها الدفاعي بشكل كبير ليصل إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأمر الذي كان دائمًا موضع انتقاده.
وتسعى المملكة المتحدة، التي تتجاوز بالفعل نسبة الإنفاق المستهدفة في الناتو والمحددة بـ2% من الناتج المحلي، إلى رفع هذه النسبة إلى 2.5%، إلا أن الحكومة الحالية لم تحدد إطارًا زمنيًا لتحقيق هذا الهدف.
إذا ما مضت الولايات المتحدة في رفع هدف الإنفاق الدفاعي للناتو، فإن ذلك سيزيد من الضغوط المالية على الحكومة البريطانية، ما قد يضطر رئيس الوزراء كير ستارمر إلى استثمار عشرات المليارات من الجنيهات الإضافية أو المخاطرة بإضعاف العلاقات مع الحليف الأمريكي.
(العلاقات البريطانية - الأمريكية)
بحسب "التايمز"، فإن عودة ترامب إلى الرئاسة الأمريكية ستشكل تحديًا دبلوماسيًا كبيرًا لرئيس الوزراء ستارمر.
فقد سبق لستارمر أن أشار إلى أن فوز ترامب "ليس النتيجة المفضلة" بالنسبة له، فيما سبق لوزير الخارجية ديفيد لامي أن أدلى بتصريحات لاذعة ضد ترامب عندما كان نائبًا في البرلمان، واصفًا إياه بأنه "متعاطف مع النازيين الجدد" و"طاغية يرتدي باروكة" و"مهرج خطير".
ورغم هذه الانتقادات، حاول ستارمر بناء جسور مع ترامب منذ توليه رئاسة الوزراء بمساعدة السفيرة البريطانية لدى الولايات المتحدة، كارين بيرس.
وكان ستارمر أول من اتصل بترامب بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها في ولاية بنسلفانيا في يوليو، وتلا ذلك عشاء مشترك بينهما في برج ترامب في نيويورك.
إلا أن هذه الجهود تضررت بشكل كبير عندما دعا رئيس عمليات حزب العمال المتطوعين البريطانيين للسفر إلى الولايات المتحدة لدعم حملة المرشحة هاريس، ما دفع فريق ترامب لتقديم شكوى رسمية للجنة الانتخابات الفيدرالية، متهمًا حزب العمال بالتدخل الأجنبي، وذكر أسماء بعض كبار مستشاري ستارمر.
ورغم أن هذه الشكوى أثارت ضجة إعلامية في المملكة المتحدة، فإن الحكومة البريطانية ترى أنها كانت تستهدف بشكل أساسي تعطيل حملة هاريس أكثر من تهديد العلاقات البريطانية الأمريكية.
ويؤمن البعض بأن العلاقة الخاصة بين البلدين ستعود لطبيعتها. لكن، كما اكتشف رؤساء الوزراء البريطانيون السابقون، فإن ترامب يميل إلى استغلال هذه العلاقة فقط عندما تخدم مصالحه، خصوصًا فيما يتعلق بالزيارات الرسمية وإعجابه الطويل بالعائلة المالكة.
وعلى صعيد آخر، فإن العلاقة المتينة بين ترامب وزعيم حزب الإصلاح، نايجل فاراج، قد تشكل عقبة إضافية، حيث من المرجح أن يسعى فاراج لإثارة المشكلات لحكومة ستارمر ويعمل على زعزعة استقرارها.
(المناخ والبيئة)
أما بالنسبة لسياسات المملكة المتحدة في مجال المناخ، فإن رئاسة ترامب ستشمل تحديات خاصة، ذلك أن ترامب وصف التغير المناخي بأنه "إحدى أكبر الخدع على مر العصور".
ومن المتوقع أن تؤدي عودته إلى البيت الأبيض إلى تراجع سياسات المناخ التي وضعتها إدارة بايدن، وهو ما سيخلق معضلات سياسية واقتصادية للحكومة البريطانية.
وتعهد ترامب حال فوزه بزيادة إنتاج النفط والغاز محليًا لخفض تكاليف الوقود في الولايات المتحدة، ما سيؤثر على أسواق الطاقة العالمية، وقد يجعل حقول النفط والغاز في بحر الشمال أقل جدوى اقتصاديًا، مما سينعكس سلبًا على عائدات الضرائب البريطانية.
وفي ولايته الأولى، انسحب ترامب من اتفاق باريس للمناخ، وأكد أنه سيعيد الانسحاب إذا فاز مجددًا بالرئاسة.
هذا الأمر من شأنه أن يعقّد من دبلوماسية المناخ الدولية، حيث تسعى بريطانيا للعب دور قيادي، وقد يضعف ذلك جهودها في تحقيق الأهداف البيئية.
ويكمن القلق في أن تؤدي إدارة ترامب إلى التقليل من شأن الاندفاع على الصعيد الدولي تجاه تحقيق "صفر انبعاثات" قد يجعل من الصعب على حكومة حزب العمال تبرير التحول السريع عن الوقود الأحفوري أمام الرأي العام البريطاني، بحجة أنه يصب في مصلحة الاقتصاد البريطاني.
وشدد وزير الطاقة في حكومة حزب العمال، إد ميليباند،على أن بريطانيا في طريقها لأن تصبح "قوة عظمى للطاقة النظيفة" وأعلن عن استثمارات خضراء بمليارات الجنيهات، وأقر عدة مشاريع ضخمة للطاقة الشمسية، ورفع الحظر عن بناء توربينات الرياح البرية في إنجلترا.
لكن ترامب يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا. فقد وعد بزيادة التنقيب عن الوقود الأحفوري، ومن المحتمل أن يلغي أية لوائح بيئية لم يتم اعتمادها خلال الأسابيع الأخيرة من إدارة بايدن، كما سيحاول تقليص الإنفاق المخصص للحوافز الخضراء في خطة بايدن للتحفيز الاقتصادي.
وبالإضافة إلى الصعوبات في بناء علاقات طيبة، سبق لميليباند أن وصف ترامب بأنه "أبله مطلق"، مما يزيد من تعقيد المشهد بين الطرفين في هذا المجال.