محمد أمين- رئيس التحرير
لندن تتحدث العربية، يستطيع كل زائر أو مقيم أن يكتشف ذلك بسهولة بمجرد اتخاذه قرارا بالتجول في عاصمة الضباب عبر المواصلات العامة بالقطارات أو الباصات،وحتى سيارات الأجرة العادية، سيلاحظ أن من بين كل خمسة أشخاص هناك شخص يتحدث العربية، وربما من بين كل ثلاثة وفقا لبعض التقارير.
كما سيقرأ الزائر اليافطات العربية في كل مكان، وسيجد موظفين بريطانيين في كبرى المحلات التجارية يتحدثون العربية التي كانت شرطا من شروط قبولهم في الوظيفة، وينفق السياح العرب وفقا للتقديرات الرسمية البريطانية بين مليار ونصف إلى 2 مليار جنيه إسترليني سنويا، مع حجم استثمارات تصل في أقل تقدير ل 150 مليار جنيه إسترليني، ووفقا لمكتب الإحصاءات البريطانية ينفق السائح العربي يوميا في١٧٣ جنيها بمتوسط إنفاق للرحلة السياحية الواحدة يبلغ 25 ألف جنيه إسترليني (40 ألف دولارا).
وبعيدا عن السياحة و ضخامة الاستثمارات العربية،وكلها عوامل قوة عربية فقد تشكلت مجتمعات عربية في بريطانيا ولد الجيل الثالث منها على الأقل في المملكة المتحدة،ويعتبر ذلك الجيل انجلترا وطنه الأول، ولغته الأم هي الإنجليزية،مؤشرات كلها تطرح تساؤلا عن السبب الحقيقي وراء تراجع قوة الضغط العربي واللوبي العربي في بريطانيا رغم توافره على كل أسباب القوة؟،ولماذا يتعثر العرب في الوصول إلى مبنى البرلمان،وحصد تمثيل مناسب لهم؟
ولمحاولة فهم تلك الظاهرة ينبغي إلقاء نظرة تحليلية فاحصة على واقع الجالية العربية في بريطانيا، تكشف تلك النظرة بأن الجالية العربية وصلت لبريطانيا على مراحل ضمن موجات لجوء مختلفة بدأت بالفلسطينيين ثم اللبنانيين جراء الحرب الأهلية ثم الجالية العراقية بعد حربيي الخليج الأولى والثانية وصولا لموجة اللجوء الكبير بعد الثورات العربية أو ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"،ما يعني أن غالبية العرب الذين وصلوا لبريطانيا وصلوها في ظروف غير طبيعية، بحثا عن الأمان، أو هربا من تهديدات سياسية، فوجد اللاجئون العرب في بريطاينا ملاذا آمنا من الحروب أو الاستبداد لمن فروا من بطش أنظمتهم،وهذه الظروف جعلت هدف الجالية الأول هوالبحث عن الأمان بعيدا عن الخوض في أي نشاط سياسي أو عام.
ولا تزال عقلية "ياغريب خليك أديب" تهمين على سلوك كثير من العرب الذين يتأملون فقط الاستمرار في البقاء في بريطاينا،ويفكرون بعقلية الأقلية الطارئة وليس المواطنة الكاملة،ما يعيق من اندماجهم في المجتمع،ويقلل بالتالي من فرصهم في تشكيل لوبيات ضاغطة لصالح قضاياهم ، كما أن بعض من وصل بريطانيا منذ عشرين عاما بقي طوال تلك السنين "رجل هنا وأخرى هناك في بلده" كما يقال معتقدا أن مكوثه في بريطانيا مؤقت، أشهر وربما بعض سنوات ثم سيعود لبلده الأصلي، وهو اليوم جد أحفاده ولدوا في المملكة المتحدة.
أما سياسيا فإن حجم الاستقطاب في العالم العربي جعل الفرقة والانقسام تنتقل للأسف الشديد إلي صفوف الجالية العربية في بريطاينا ومعظم العواصم الأوروبية،وقد حدثني صديق أنه حضر فعاليتين متتاليتين في نفس القاعة بنفس الجمهور لدولتين متخاصمتين، كل دولة ساقت حججها ضد الأخرى، كما أن البرلمان يحفل يوميا بحملات وحملات مضادة عربية عربية موجهة ضد بعضها البعض،ما يسهل من تفسير ظاهرة غياب الصوت العربي عن الفعل،فلماذا لا يوجد حتى هذه اللحظة نائب عربي في البرلمان، باختصار شديد لأن "بأسنا بيننا شديد".
بالمقابل فقد نجحت الجالية العربية في تحريك الضمير الغربي وتشكيل جماعات ضغط عقدت شراكات مع منظمات بريطانية وحققت اختراقات كبيرة في بعض الملفات العربية علي سبيل المثال تمكنت اللوبيات العربية العاملة في دعم القضية الفلسطينية من النجاح في تغيير الرأي العام البريطاني لصالح دعم الحقوق الفلسطينية،عبر حشد مئات الآلاف من المتظاهرين في الشوارع دعما لفلسطين وتنديدا بالاحتلال الإسرائيلي.
وقادت تلك اللوبيات مع حمة التضامن مع الشعب الفلسطيني وحملات المقاطعة BDS سلسلة من الحملات التي حققت اختراقات كبيرة أجبرت الحكومة البريطانية على الرضوخ لمطالبها في كثير من الملفات، إضافة لشراكة هامة مع حزب العمال الذي انخرط كثير من الشباب العرب في صفوفه. كما بات الصوت العربي مهما في الانتخابات إلى حد ما،ويمكن قراءة ذلك من حرص الأحزاب في برامجها الانتخابية على إدراج قضايا تغازل احتياجات الناخبين العرب والمسلمين ولو باستحياء، كما أن شباب الجيل الجديد من عرب بريطانيا واعدون، يتقنون لغة الغرب وطرق التخاطب معه، لكن السؤال يبقى ماذا لو خصص كل عربي بريطاني وكل سائح عربي جنيها إسترلينيا واحدا لدعم القضايا العربية، و تم تشكيل بهذه الأموال لوبيات ضغط عربية وأحزاب عربية حقيقية تمول من هذه التبرعات ومن اشتراكات حقيقية للأعضاء حالها حال كبرى الأحزاب البريطانية.. هل سيبقى البرلمان وقتها بدون عرب؟؟ لكن قبل تلك الخطوة ينبغي الإجابة بصراحة عن سؤال أساسي أكثر أهمية: هل يمكن للعرب تجاوز خلافاتهم البينية لصالح وحدة في الغرب، بدلا من تبعثر وتفرق صوتهم عبر الجاليات المتعددة والسفارات،والتوقف عن نقل صراعات بلدانهم الأصلية إلى العواصم الغربية!.
أخيرا وبمواجهة صعود التيار اليميني في أوروبا عموما وارتفاع منسوب العنصرية ضد الآخر،يجد العرب والمسلمون أنفسهم في مرمى النيران، فهم واحدة من الجاليات الأكثر تضررا جراء صعود هذه التيارات،يبرزهذا جليا كذلك بالنظر لتصاعد ظاهرة الاسلاموفوبيا،وكراهية المهاجرين عموما حيث كشف استطلاع للرأي أجرته شركة «أوبينيوم» البريطانية عن أن الانتهاكات العرقية الصريحة، والتمييز العنصري الذي اشتكته الأقليات العرقية قد تصاعدت من 64% في بداية عام 2016 إلى 76% في الوقت الحالي.
آخر ضحايا الاعتداءات العنصرية الفتاة المصرية مريم مصطفى من مدينة نوتنغهام،حيث اعتدت عليها ٦ بنات في فبراير الماضي بالضرب المبرح في حافلة عامة نقلت على إثر هذا الاعتداء للمستشفى قبل أن تفارق الحياة. كما تعرض الشاب دانيال عزالدين (17 عاماً) للاعتداء والضرب حتى وصل إلى حافة الموت خلال رحلة للاحتفال بتخرجه في مدنية كانتربري من قبل عصابة من الشبان في هجوم يعتقد معظم السكان المحليين أنه بدافع عنصري.
فليس لأسباب سياسية فقط، بل لأسباب وجودية، ينبغي على العرب أن يفكروا كعرب ككتلة واحدة في مستقبلهم في هذه البلاد والقارة الأوروبية عامة، وأن يوحدوا جهودهم لتمثيل عربي أفضل يليق بهده الجالية.